د. بارق شُبَّر
في الماهية لا يوجد أي فرق بين الإنسان الهندي والعراقي، فالاثنان هما من صنف البشر واخوان في الخلق، ولكن في الواقع توجد اختلافات كبيرة في طريقة التفكير واخلاقيات العمل والاداء. الكثير من العراقيين وليس كلهم يستهزؤون من الهندي وينظرون اليه نظرة دونية ويعتبرونه ساذجاً وتنطلي عليه الحيل والاكاذيب. تنعكس هذه النظرة في المقولة الشعبية المنتشرة منذ عقود “آني مو هندي” مما يقصد بها “أنا لست ساذجاً ولست غبياً لكي تنطلي عليَّ حيلك لتنفيذ مأربك مني”.
وفق تجاربي الشخصية مع الكثيرين من الهنود من مختلف المستويات في دول الخليج وبريطانيا واطلاعي على الاقتصاد الهندي فإن الحقيقة هي عكس ذلك تماماً، وتبين أن معظم العراقيين يعيشون في جهل وأوهام، ويعتمدون على رأس الدولة لتدبير جميع امورهم المعيشية، كما كان شيخ القبيلة يفعل ذلك في مرحلة المجتمع البدوي قبل مئات السنين (أنظر كتابات على الوردي)، في حين يمتلك الإنسان الهندي طموحاً كبيراً لتغيير واقعه وتحسين مصادر عيشة من خلال مبادراته الذاتية.
أحدث مثال على ذلك هي قصة حقيقية قرأتها في الجريدة الالمانية برلينر مورغن بوست (Berliner Morgenpost) عدد 13، كانون الثاني 2018 عن رجل هندي قروي اسمه جلاندهار ناياك عمره 45 (Jalandhar Nayak) شقَّ طريقاً طوله 8 كيلومتر وسط الاحراش والغابات لكي يذهب أولاده الثلاثة بأمان إلى المدرسة ويعودون سالمين إلى بيتهم. لقد تأكدت من صحة المعلومة والتي وردت ايضاً في جريدة الغارديان البريطانية بتاريخ 11 كانون الثاني 2018 (أنظر الرابط في الاسفل) وفي البي بي سي وعدد كبير من الصحف الدولية المرموقة. ومختصر القصة الحقيقية هو كالآتي:
الرجل يعيش مع عائلته في قرية صغيرة نائية في ولاية أوديشا في شرق الهند ويعتاش على بيع الخضار والمنتجات الزراعية. المنطقة مليئة بالأحراش والغابات والجبال والتي يضطر أولاده الثلاثة تجاوزها يومياً للوصول إلى مدرستهم التي تبعد 10 كيلومترات مشياً على الاقدام وسط الاحراش والصخور لمدَّة ثلاثة ساعات ذهابا وثلاثة ساعات رجوعا إلى البيت. الطريق لم يكن آمناً، حيث تعرض الأولاد للجروح والكسور مرات عديدة بسبب التعثر بالجذور والصخور، وفي الكثير من الاحيان كان الأولاد يضطرون إلى المبيت قرب مدرستهم لتلافي مشقة الطريق الوعر.
وقبل سنتين قرر الرجل أن يشق طريقاً أقصر إلى مدرسة أولاده وكانت ادواته الوحيدة هي المعول والمجرفة والإزميل، وكان يعمل 8 ساعات يومياً. وفي بداية هذا العام أنجز الرجل 8 كيلومتر من الطريق وكان يخطط تكملت المسافة المتبقية والتي تبلغ 2 كيلومتر، إلا أن أحد الصحف المحلية نشرت القصة وبذلك لفتت انتباه السلطات المحلية التي قررت تكملة الطريق وتعويض الرجل على عمله. كما قررت توسيع الطريق الذي أنجزه ليتسنى للسيارات المرور عليه ويسمح للسلطة المحلية بمد خطوط الماء والكهرباء إلى قريته المعزولة عن الحياة المدنية.
وفي هذا السياق يذكّرنا الاعلام بقصة اخرى حقيقية حدثت في عام 1959 في احدى القرى الهندية ايضا بطلها رجل هندي اسمه داشرات مانجهي (Dashrath Manjhi) اصيبت زوجته بجروح خطيرة وكان أقرب طبيب يبعد 70 كيلومتر عن قرية الرجل مشياً على الاقدام. في الطريق إلى الطبيب توفت الزوجة مما دفع الرجل إلى اتخاذ قرار في عام 1960 بشق طريق أقصر كممر عبر الجبل. وبعد 22 عاما من العمل اليومي الشاق تمكن من حفر ممر في الجبل طوله 110 متر وعرضه 9 متر وعمقه وصل في بعض المقاطع إلى 7,5 متر. في البداية كان سكان القرية يستخفون بقدراته ولكنهم بعد ما شاهدوا تصميمه بدأوا بمساعدته من خلال تقديم الطعام له والتبرع لشراء ادوات العمل. توفي الرجل في عام 2007 وتم تشييعه رسمياً من الدولة.
أكتب هذه السطور وكلي أمل أن يحتذي المواطن العراقي، إن كان في الداخل أو في المهجر، بهذه الأمثلة من الاعتماد على النفس والمبادرات الذاتية لتغيير أوضاعه المعيشية وتحسينها وبذلك فهو لا يساعد نفسه بنفسه وحسب، وإنما يساعد في بناء وطنه وفي بناء ثقافة وأخلاقيات عمل جديدة بعيدة عن النزعة الريعية المنتشرة لدى الكثيرين من العراقيين في الداخل والخارج. أشاهد في المانيا وبألم أعداد كبيرة من اللاجئين العراقيين الذين قدموا في ثلاثة موجات 1979 و1991 و2016 ومعظمهم لم يستغلوا فرصة وجودهم في المانيا لتعلم اللغة الالمانية بشكل صحيح ولاكتساب المعرفة والخبرة المهنية وحتى القدماء منهم والذين مضى على وجودهم ثلاثة عقود لكي يتمكنوا من الاعتماد على أنفسهم وللأسف لا يزالون يعتمدون على الإعانات من الدولة الالمانية. وحسب علمي لا يوجد فارق بين وضع اللاجئين العراقيين في المانيا وفي بقية الدول الأوربية.
أما على الصعيد الداخلي فيكتسب موضوع المبادرات الذاتية أهمية قصوى في مرحلة ما بعد هزيمة داعش وإعادة إعمار المناطق المحررة في محافظات نينوى وصلاح الدين والانبار. من الواضح للعيان أن إمكانيات الدولة المالية ولأسباب عديدة لا يسعني الولوج فيها هنا، سيما وأنها نوقشت في مقالات ودراسات اخرى عديدة، قد تسمح بالكاد ترميم وتأهيل البنى التحتية المتضررة وبشرط الحصول على مساعدات أجنبية سخية من قروض ميسرة واستثمارات اجنبية. لذا يتعين على المواطن العراقي، إن كان من هذه المناطق المتضررة أو من المحافظات الاخرى، تنظيم حملات تطوعية للمساهمة في إعادة بناء المنازل والمدارس والشوارع الفرعية والعديد من منشآت البنية التحتية البسيطة. منظمات المجتمع المدني والتي يبلغ عددها حوالي 3 آلاف منظمة مطلوبة لتنظيم مثل هذه الحملات.
* مستشار اقتصادي دولي سابق، مؤسس شبكة الاقتصاديين العراقيين والمنسق العام لها.