أحمد فضل شبلول
تكشف قصائد ديوان “لست مؤهلة للعشق” للشاعرة نجاة صادق الجشعمي أننا أمام امرأة تحب بكل ذرات كيانها، وبكل حدائق حواسها، وأنها غارقة في العشق، وتُغرق معها قارئها في بحار هذا العشق المجنون.
قد يكون عشقها للرجل أو للوطن أو للإله، ولكنها في جميع الأحوال مؤهلة له. فمن يتنفس ثياب عشيقه كل صباح ويقبِّل أطرافه كل مساء، ومن لا يملك شيئا يقدمه لحبيبه أو لعشيقه، هو في الواقع متورط في هذا العشق، فماذا يملك العبد لكي يقدم لربِّه سوى أعلى درجات العشق؟ ومن يملك كل هذه التداعيات المتواترة والمتوترة من الأفعال سواء الماضية أو المضارعة يكون في أعنف حالات العشق:
أحببتُ، تشاجرت، توترت، كبحت، انفلت، محوت، حاولت .. وأكثر من ثلاثين فعلا متدفقا ينثال على هذه الشاكلة حتى تختم بقولها: تراجعتُ فابتعدتُ. وذلك في قصيدتها “في الانتظار”.
إن هذا التدفق السريع والعنيف للأفعال الماضية يخلق موسيقى شعرية متوترة خلاف موسيقى تفعيلات الخليل بن أحمد الفراهيدي، هل هو ما يعرف بالنبر؟ أم هو ما يعرف بموسيقى الحروف وجرسها؟ أم أن مصدر هذه الموسيقى أو هذا الإيقاع هو تاء المتكلم (تحركتُ، قصدتُ، خَدَعت، خُدعت، ترنحتُ، أصبحت، حاولتُ.. الخ)؟
هذا التدفق أو هذا الشلال من الأفعال يمنح السخونة والحرارة لجسد القصيدة، وينتج عنه صورة شعرية عبقرية تقول فيها الشاعرة:
فكنتُ كصفارِ وبياضِ
بيضةٍ في مقلاةٍ
ملتهبة
وهذه الصورة الشعرية تذكرني بصورة كامل الشناوي في قصيدة “حبيبها”:
تباعدتْ وتدانتْ
كأصبعين بكفي
خاصة أن الشاعرة تلاعبت وتوسلت بالأفعال الماضية كما تلاعب كامل الشناوي في قوله (تباعدت وتدانت)، فهي – أي الشاعرة – تقول: ترنحتُ، أصبحتُ، حاولتُ، .. الفارق الوحيد أن الضمير عند كامل الشناوي كان للغائب الأنثوي، أما الضمير عند نجاة صادق الجشعمي فكان للمتكلم الأنثوي.
إن عملية التباعد والتداني – عند كامل الشناوي – تخلق نوعا من التأرجح بين الإقبال والإحجام، وهو ما صرحت به الشاعرة في قولها: تأرجحتُ (التي تكررها مرتين) ولكنها في النهاية تتراجع وتبتعد خوفا من تورطها أكثر في عملية العشق، وخوفا من أن تكون غير مؤهلة لهذا العشق التي تورطت فيه بكل كيانها.
إن نفيها بالفعل الماضي الناقص (لستُ) يؤكد إثبات تورطها في العشق، وأنها مؤهلة له، ولكنها تخشى من عواقبه أو نتائجه، ولهذا كانت تؤثر الابتعاد، ولكنها في ابتعادها تتحول إلى أشلاء ذائبة فتستعين بمجموعة أفعال ماضوية أخرى تكشف عن حالتها النفسية وضعفها بعد أن حاولت الابتعاد فتقول:
حاولتُ، انهزمتُ، فضعفت، واندفعت، وعشت، ومت، حزنت، صرت أشلاء، تلاشيت .. الخ.
إن كل فعل من هذه الأفعال يعبر عن حالة خاصة وإيقاع خاص، ويخلق نوعا من الظلال حوله، فتتجمع الصور النفسية وتتكسر كالشظايا، أو تنطلق من أسرها اللغوي كالأجنحة المتكسرة، إنها صورة من صور المقاومة النفسية لهذا العشق الذي تخاف منه، ولكنها في النهاية تعلن استسلامها، فهي لا تملك سوى الاستسلام لهذا الجنون العشقي ليتحقق عكس ما قالته في عنوان الديوان “لستُ مؤهلة للعشق” ولتبرهن على أنها قادرة على العشق في قولها:
احتوتني نبضاتُك
وأحضانك الدافئة
أحسستُ فاستجبتُ
ثم نظرتُ لشفتيك
لتستجيب لمحاولاتي
وتبدأ رحلة العشق والوله، وتظهر الأفعال المضارعة – بعد أن سادت الأفعال الماضية – مثل (تستجيب، تقبِّلني، تتراقص) ما يدل على الرغبة الأكيدة في استمرارية هذه الحالة العشقية، لذا يعلو صوت الفعل المضارع المستمر ويُهزم الفعل الماضي في هذه الحالة العشقية، وتتمنى الشاعرة لو أنها التقت هذا العشق منذ ألف عام، معلنةً بهذا ندمها الشديد على عدم خوض تلك التجرية العشقية من قبل، متساءلةً عن سر الهوى ليطمئن قلبُها، وليبزغ هذا التناص مع الآية الكريمة 260 في سورة البقرة {أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} وذلك في قولها:
انتظرُ لعلك
تُنبئني
عن سر الهوى
أجبني
كيف يكون
ليطمئن قلبي.
لقد اطمأن قلب الشاعرة وكيانها وتفجرت مخيلتها وصورها وألحانها، ولاحظنا تصاعد لغة مشرقة وضيئة متوضأة من الحروف المضيئة، تنهل من نبع الحب وتغتسل بالماء العاشق، وتعلن الشاعرة أنها لن تترد ثانية في إعلان عشقها (فالتردد دانٍ).
إن العشق يمنحها القوة فتنتصر على يأسها وبؤسها وخاصة بعد أن أخبرها عشيقها أو حبيبها بأن عيونَها جنةٌ بريئة:
لقد أخبرتني ذات يوم
أن عيوني جنة بريئة
وهذا الاعتراف منحها من السعادة والتحليق في فضاء العشق ما استطاعت إلى ذك سبيلا، وعندما نستعيد عنوان الديوان مرة أخرى “لستُ مؤهلة للعشق” نلاحظ تلك المفارقة الشاسعة بين الحالة التي عليها الآن بعد تلك الاعترافات، وذلك العنوان.
إن هذا الاعتراف والاحتفاء يجعلها ترى نفسها نبيَّا (وليس نبيّة، لأنه لا يوجد نبيات من قبل .. حتى السيدة مريم العذراء لم تكن نبية، نحن نجد قديسات ومؤمنات وسيدات فضليات لهن الحظوة والتأثير مثل السيدة عائشة والسيدة زينب والسيدة فاطمة الزهراء ورابعة العدوية وغيرهن، ولكن لم نجد نبية) وقد كانت الشاعرة واعية لهذا الأمر تماما، لذا لم تطلق على نفسها صفة النبية في عشقها، ولكنها اختارت التذكير، في قولها:
يا أنتَ
أراكَ بعشقك لي أصير
نبيا.
إن العشق ينمو ويتمدد ويعلو ليمنح صاحبه أو صاحبته مرتبة أقرب إلى النبوة والقداسة، وأظن أن هذا النوع من العشق سيصل إلى مرتبة العشق الإلهي في قصائد أخرى قادمة للشاعرة، وهو الطريق الطبيعي لهذا العشق الذي يبدأ من البشر والموجودات ليعلو ويصفو ويصل إلى خالق الموجودات.
بعد أن تمكنت الشاعرة من عشقها وأثبتت أنها قادرةٌ عليه ومؤهلةٌ لها، وأنها قادرةٌ على الشعر وقادرة على لغته وصوره وموسيقاه الخفية غير الخليلية، تتحدث عن وطنها الغائب، ربما تستطيع استعادته من خلال عشقها الكبير، فتقول:
أحبك يا عراقي
رغم أنك نبذتني
لكن حبك
بدمي أنا
وإثبات ياء الملكية في قولها (يا عراقي) – وتكرارها أربع مرات – وليس (يا عراق) يؤكد تغلغل هذا الوطن في داخلها، وإنها تمتلكه أو يمتلكها رغم أنه لا يأبه بها وينتبذها.
يعلو نشيج الوطن في أكثر من نص، وفي أكثر من صورة بائسة ومحزنة، وربما مثل هذه الصور هي التي جعلت الشاعرة تشعر في لحظة ما أنها غير قادرة على العطاء ولا على الحب ولا على العشق، لذا اعتقدتْ أنها غير مؤهلة للعشق، خاصة عندما تصحو صباحا على الأنباء المحزنة فيلازمها الاكتئاب ليلا ونهارا بعد أخبار تمزيق البلاد.
ولكنها في تلك الحالة سوف تحتاج إلى المزيد من جرعات العشق لخلق حالة من التوازن النفسي، تستطيع من خلالها أن تنتفس الحياة، وتتأكد أن لها هوية وبطاقة ميلاد ووطنا جميلا وفساتين وضحكات أطفال.
أحيانا يتماهى الحب والعشق بين الرجل والوطن – أو كما يعنون الشاعر أحمد حنفي دراسته الملحقة في نهاية الديوان “الرجل الوطن وحلم الأنثى بالوجود” – في قصائد نجاة الجشعمي وخاصة عندما يكون النداء (يا أنت .. ) مثل قولها:
يا أنتَ ..
أودعتك قلبي وحبي
سجينة أنا
يا أنتَ .. أفلا تفكني
بأشعة همسك
فبدفء عينيك
أعلى درجاتِ اليقين
هنا يتساوى الرجل والوطن، وتتسامى مشاعر العشق والرغبة في الانعتاق والحرية، ولكن كيف يكون هذا الانعتاق والشاعرة متورطة في عشقها، ويلتذ لها دفء العينين وهمس الشفتين، فسجن العشق هنا هو أعلى درجات الحرية واليقين.
إن الذات الشاعرة قصدت هنا الوضوح والبساطة الآسرة، بوسيلة شعرية ناجزة، هي التدفق اللغوي للأفعال، وقد قادها هذا الوضوح وتلك البساطة أحيانا إلى الوقوع في فخ التقريرية والتسطيح والمباشرة، مثل قولها:
“خلف كل باب مغلق / حكاية / ورواية / وبداية / ونهاية” فأين الشعر هنا، وأين الصورة الشعرية ومقومات الشعر؟ بل أرى أن هذا المطلع في قصيدة “مغلق” يصلح لأن يكون بداية تقليدية لقصة قصيرة. وما يشفع لهذه القصيدة أن توضع في الديوان هو نهايتها التي أرجعت النص إلى عالمه الشعري الأثير لدى الشاعرة في قولها:
يا أنتَ
بالله عليك كيف
تسألني عن سر العشق
وأنا خلف بابِ قلبك مسجونة.
ودائما تستخدم الشاعرة صيغة النداء “يا أنتَ ..” بدلا من يا سيدي أو يا حبيبي أو يا عيني أو يا قلبي .. الى آخر هذه الصيغ المتعارف عليها في أشعارنا وأغانينا. إنها تقول على سبيل المثال في قصيدة “أتبعثر”:
يا أنتَ
أريد قنديلا وقبسا.
وهذه الصيغة لا تحمل طلبا أو رجاءً أو تمنيا أو حلما، بقدر ما تحمل أمرا. على العكس مما لو جاء هذا الطلب في صيغة “يا حبيبي .. أو يا سيدي .. أريد قنديلا وقبسا”. في قولها “يا أنتَ .. أريد كذا” نشعر بنوع من الجفوة والتعالي بطريقة لا تتناسب مع مفردات العشق والوله ذي الصبغة الرومانسية.
وهي عندما تريد التخفيف من “يا أنتَ ..” هذه، تستخدم “يا هوايَ” وهذه الصيغة أقرب إلى مشاعر العشق والهوى وأكثر دفئا وحميمية من “يا أنتَ ..” تقول في قصيدة “افتخر”:
وأعترف لك يا هوايَ
أنني ضحية الفتنة الطائفية.
ولكنها تعود في القصيدة نفسها إلى “يا أنتَ” في قولها:
يا أنت
عانقني
كي أعرف اسمي
يا أنت
شكرا لك.
وقد لاحظت أن صيغة المنادى “يا أنتَ” ترتبط – في الغالب – بفعل الأمر: يا أنتَ .. عانقني – دع – ضع (ضعها) – وغيرها من الأفعال.
ولكنها عندما تقول:
يا أنتَ .. صرتَ أنا .. وأنا أنتَ
أو قولها في قصيدة أخرى:
أهواك يا أنت
يا أنتَ .. يا أنا
فإنها تنزل البيتين الشهيرين للحلاج من عليائهما والذي يقول فيهما:
أنا مَن أهوى ومَن أهوى أنا ** نحن روحان ِحَلَلْـنا بدنا
فـإذا أبصرتـَني أبصرتـَهُ ** وإذا أبصرتـَهُ أبصرتـَنـا
وقد ضمنت الشاعرة كلمات لمحمود درويش في قصيدتها “المساومة” وهي: “قنديل ورد وجواز سفر” ثم كتبت اسم محمود درويش بعد تلك الكلمات وداخل متن القصيدة، وأرى أنه كان من الأوفق أن يكتب اسم الشاعر في حاشية الصفحة كإشارة إلى أن ما بين القوسين هو للشاعر محمود درويش.
وبعد أن تفرغ الشاعرة من قصائدها الطوال أو متوسطة الطول، تكتب مجموعة من القصائد القصيرة تحت عنوان “قصائد بلا عنوان وربما لها عنوان ونسيته”، ولأنها نسيت العناوين فإنها تستعيض عنها بالأرقام، فتعطي كل قصيدة رقما، وأرى أنها حققت الشعرية في معظم هذه القصائد التي بلغ عددها أربع عشرة قصيدة، كان أجملها القصيدة رقم (9) التي تقول فيها الشاعرة:
جهزت فنجانين
من القهوة
لي ولك
وارتشفت رشفتين..
واحدة لك وواحدة لي
واشتريت وردتين
واحدة لي .. واحدة لك
وجلست ساعتين
وانتظرتك مرتين
بل قل عامين
وفي كل صباح
أجهز فنجانين من القهوة
وأنتظر.
هذه قصيدة مليئة بالشعر الحقيقي والمعاني الإنسانية الرقيقة وتعلو على المناسبات وتجسد العشق الذي تحتفي به قصائد الديوان، دون أن تذكر الشاعرة لفظة “العشق” ولا لفظة “يا أنت”.
لقد استطاعت الشاعرة في هذه القصائد القصيرة أن تقبض على روح الشعر:
كروح طفلة
على هامش الحياة
فاتتها القطارات
وقفت مذعورةً
كتمثال على رصيف الشوق
مفزوعة من الخوف وشهقة الفرح.
وإذا كنا لاحظنا في القصائد الطوال ومتوسطة الطول شيئا من التقريرية والمباشرة والتسطيح، فإن الشاعرة في تلك القصائد القصيرة لجأت إلى التكثيف والترميز والتلميح، وأعتقد أن شاعرية نجاة صادق الجشعمي تتأكد في تلك القصائد القصار.