صوتها – سناء الحافي
إن السجن ليس فقط الجدران الأربعة وليس الجلاد أو التعذيب، إنه بالدرجة الأولى خوف الإنسان ورعبه، وهذا بالضبط ما يريده الجلادون وما يجعل الإنسان سجينا دائما في عمق ذاته وفكره وكتاباته، فالانسان يشعر بالهدوء في مواقف الخوف عندما يتخيل أسوأ ما يمكن أن يحدث، ويقنع نفسه بأن حياته لن تنتهي. لكن الخوف من الموت.. موت قد يمتدّ مدى الحياة، لكننا كثيراً ما نتشبث بالخوف عندما نريدُ أن نحتفظ بأقصى درجات الأمان.
ففي رواية الكاتب والروائي العراقي علي لفتة سعيد، كان لنا الخيار في تبني زاوية الرؤية التي قد تكون مدخلا مهمّا للمناخ الروائي، والخيط الرابط بين جميع مكونات سردية الرواية، الأمر الذي يجعله محل التقاطعات والامتدادات، وحتى عندما يغيب، نشعر بوجوده في نسق الأحداث المقدمة من خلال الشخصيات الأخرى.
«السقشخي» العمل الروائي الذي يصلب فينا شعور الجهل وعدم الإدراك، يتربّص بالضعف والهروب ليجعل منه بابا موصدا بعدم الاستسلام، من خلال سيميائية العالم التكويني وتسامي الكاتب عن التصنيف الطائفي، وتطويع الشخصيات لتكون أنموذجا، توثق الحدث الأدبي بشكل مميز، ودلالة على الحالة الاجتماعية والثقافية المتردية، لتأخذ تلك العقلنة الفنية مهمتها في اتجاه آخر يعكس في مراياها المتعددة قاع المجتمع وسطحه، بما هو نتاج للعلاقات المتحكمة والأيديولوجية السائدة ساخراً / ناقما من شكلانية الفكر وتسطحه، إذا لم أقل اضمحلاله وتشوهه، في عقل نظام عقيم غير قادر على التمييز جيداً بين الأشياء ودلالاتها.
في هذه القراءة، وقبل الولوج إلى مدركات النص والغور في خبايا الشخصيات، علينا أن نشير إلى عنصر مهم في التكوين الروائي للكاتب علي لفتة سعيد، هذا المنحى القلق بين اعتبار الحداثة وموتها، أو ما سينتج عن ذلك، من تجليات متميزة ومتمايزة في استشراف المستقبل المظلم، طالما أن الحاضر لم يزل بلا أفق أو بالأحرى بلا مشاريع تفضي إلى أفق واضح يأخذ بأسباب الحضارة الحديثة سوى تلمس تصورات جديدة للكتابة الروائية، ربما تساعد على خلخلة البنى النفسية القديمة ولو برؤى شكلانية تتبناها الرواية أو تبدعها على أمل أن يبقى لها اعتبارها. بعد ذلك لا غرابة بكسر الايهام الأيديولوجي أو الاعتماد على حقائق آنية، محلية، وعابرة لإنشاء رؤية تفكيكية، غالباً لا تفضي إلى قول آخر سوى كينونتها الإبداعية بغض النظر عن قيمتها التداولية.
أما المكان فقد كان له النصيب الأكبر في التأثير على الجو السردي، واستثمار البيئة الاجتماعية وظروفها القاتلة في عمق الكاتب لتصبح بذلك الملجأ والمرفأ، قد اختار الكاتب المنطقة بعناية فائقة فهو قد عايشها بكل تفاصيلها، وعايش الكثير من شخوص الرواية فهو لم يبخسهم حقهم، قد يكون جزء من شخصية ماجد خياليا، ولكن ليس كل الشخصية فهي مزيج من ذلك العراقي الذي امتهن اعظم مهنة وهي التدريس، وشخصية الكاتب، موظفاً العهر السياسي وسلطته في القمع والاستبداد من خلال الوسائل التي اتبعها النظام في إذلال هذه النخبة من المجتمع، حيث كان الاختيار أكثر من موفق. وحتى يؤرخ الكاتب لما كان يجري في ذلك الزمن، فقد اختار مكانا نائيا صغيرا يجمع كل الطيف العراقي، متنوعا بتنوع المجتمع العراقي، منوها ببلدته التي عشقها، متحدثا عن تجربة ذاتية. واختار مهنة مقدسة في الضمير الإنساني واختار شخصا أقربهم إلى نفسه، هذا التزاوج الذي حدث بين المكان والزمان أعطى للرواية بعدا واقعيا ملموسا عانى منه الكثير من العراقيين، فمن غير المستغرب أن يعيش العراقي داخل سجنه الذي دخله بنفسه قسراُ.
فالامتداد الزمكاني في الطبيعة السردية جوهر «السقشخي» وانسجام الشخصيات من خلال المعاناة الواحدة التي كانت كفيلة بأن تخلق دهشة للمتلقي، في خضم الصراعات النفسية والسياسية والاجتماعية، بدءاُ من المرحلة الأولى وصولا إلى المرحلة الثانية في أمريكا، حين يكتشف ألا فرق بين ديكتاتور وديمقراطي، فالكل مصاب بالهواجس الأمنية نفسها، فالمحقق الأمريكي لا يفرق عن المحقق العراقي، فالكل يريده ان يعترف وهو يعلم حقيقة أنه بريء، هكذا كانت المرحلة الثانية من حياته، فهي مشابهة لما سبقتها، وظل رهين محبسه لم يستطع أن يتحرر من خوفه ورائحة الدم والخوف تزكم أنفه، على الرغم من عثوره على مصنع الجمال متمثلا بزينب، ولا غرابة في أن يكون السجان نفسه هو داخل سجنه أيضا فهو حين يحتمي بالصورة الكبيرة المعلقة خلفة، فقد رهن نفسه مع صاحبها فهو في سجن أبدي لا يمكنه الخروج والتحرر منه. والمرحلة الثالثة هي ما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، أو كما يرغب البعض تسميته بـ«التحرير» فالقضية مرهونة بوجهة نظر المتحدث ومعتقده والأيديولوجية المؤمن بها بقي الخوف والموت يسكن عقل الشخصية العراقية وبقيت رائحة الدم والموت كما هي.
وبين الانتقال من إرهاب السلطة إلى إرهاب المجتمع.. تبلورت المفارقات، وتعددت الأحداث، راسما المنحنى الفكري لضبط إيقاع الحبكة، لتتوالى الأحداث عبر سرد رشيق وكلمة معبرة، بين سجن ورحيل وهجرة، بين حب وعنف، بين فرح وألم وخوف وتشرد، بين جهنم البلد وعالم أمريكا المذهل، بدون تجاهل الكاتب في الوقت نفسه، تخفيف قتامة الأحداث على القارئ، فيطعمها بمشاهد الحب والعشق والأيروسية المحببة، فتكون كقطرات المطر التي تسقي عطش أرض عطشى بالنسبة للبطل والمتلقي في عالم الكبت والحرمان.
وأخيراً وليس آخراً، فالروائي العراقي علي سعيد لفتـــــة تفوّق على المعاناة وعلى نبذ الذات والخوف، وانتصر إبداعا بخلق منجز أدبي روائي يستحق الإشادة به، ويستحق أكثر من دراسة وتحلـــــيل، لعلّنا بذلك نستطيع تقدير هذا العمل بعــــين النقد ورؤى ما تدعو له الحداثة الجديدة، بدون تعصّب فكري أو طائفي أو أدبي.