محمد الحمامصي
أمس التقيتُ بلادًا وغادرتُها باحثًا عن بلاد
أمس التقيتُ بلادًا أدخل كل الحدود بها
وأعبرُ كل الحدود لها.
أتيت إلى شجر هارب يسكنُ الفاكهاني
لملمتُ موعدنا في الرصافةِ؟
– هل يؤويني هذا الوطنُ بنياشين الموت؟
هذي الليلة،
أسقطُ من مدن الشعر إلى كلمات الأرض
وأمزّقُ صرختيَ الكالحة الصمت
أفتح في موتي
نافذةً للموت
…………………..
أمس التقيتُ بلادًا
وغادرتُها
باحثًا عن بلاد.
مسيرة حافلة بالعطاء الإبداعي والثقافي تلك التي عاشها ولا يزال الشاعر شوقي عبدالأمير، فبعد أن غادر العراق عام 1973 قدم للثقافة العربية بالإضافة إلى مجموعاته الشعرية وترجماته ودراساته مشروع “كتاب في جريدة” الذي صدر عنه 175 كتابا وزع كل منها 3 ملاين نسخة في كل أرجاء العالم، وعقب عودته للعراق عام 2015 شرع في إصدار صحيفة أسبوعية يسعى من خلالها إلى تشكيل المشهد الإبداعي العربي عامة والعراقي خاصة شعرا وسردا وتشكيلا، وذلك بعد أن رأى تراجعا في المشهد الذي تجلت فيه في ستينيات القرن العشرين أسماء كبار الشعراء والسرديين والتشكيليين العراقيين، وفي ذات الوقت واصل إصدارات مجموعاته الشعرية الكاملة وأصدر ديوانين جديدين وينتظر إصدار أعماله النثرية وترجماته في ثلاثة أجزاء، كما كثف من حضوره داخل فعاليات وأنشطة المشهد الثقافي آملا في أن يعود العراق في صدارة الحضور الثقافي العربي.
في هذا الحوار مع عبدالأمير نلقي الضوء على مسيرته هذه ما بين ستينيات القرن العشرين ومطلع الألفية الثالثة سعيا إلى إضاءة المشهد الثقافي والإبداعي قبل مغادرته للعراق وبعد عودته.
قال عبدالأمير “منذ عودتي إلى العراق أسعى للإجابة عن سؤال الشعر والثقافة قبل أن أغادر وبعد عودتي، وقد كتبت كتابا في أول زيارة 2003 اسمه “يوم في بغداد” في مئة وسبعين صفحة وبعد ذلك كتبت ديوانين، ومازلت أكتب في هذا السؤال، لذا سأجاوبك في بقع لأنه لا جواب عن هذا السؤال بالنسبة لي.
إن شطرا شعريا لأبي تمام أخرصني لفترة حتى استطعت الخروج منه والبدء في الكتابة، لقد أطبق عليّ وقال كل شيء، حينما قال:
لا أنت أنت ولا الديار ديار
أبو تمام هنا سد عليّ منافذ الكلام، فماذا أقول، بعد 34 عاما لست شوقي عبدالأمير الذي ترك، أنا لست أنا، بغداد ليست بغداد، قالها أبو تمام في أربع كلمات، فماذا أفعل؟ ظللت فترة أعاني للخروج من هذا، وعندما خرجت عشت ومازلت أعيش هذا الخط الموازي للحضور، إنني في العراق عمليا منذ عام ونصف أعيش بخطين متوازيين الأول عراق الذاكرة، أصدقاء الذاكرة وأماكن الذاكرة حين أمر بها، حين أمر بشارع الرشيد أنا في خطين متوازيين: الواقع الذي أراه أمامي والماضي الذي يتحرك في رأسي، بينهما أحيانا أضيع؟ أين أنا؟ أحيانا لا أعرف، في الماضي أم في الحاضر؟ هل حضور الماضي وحضور الذاكرة القوي متعلق بقول، وفي نفس الوقت رفضي القوي للواقع أيضا يدفعني أكثر إلى الماضي، فأحسهما بنفس الدرجة، صورة الماضي بدرجة الحضور الفيزيائي للحياة.
ويضيف عبدالأمير: أحس أنني ممزق تماما بين نزغين الأول ماض نحو الأمس والثاني ماض نحو المستقبل، هذه الحالة مازلت أعيشها في كل مكان أمشي فيه في بغداد، في كل شارع، أنا في اشتباك بين الحاضر والماضي حتى قلت في إحدى القصائد:
أنا في بغداد / حارتان لن أدخلهما/ حارة الحاضر وحارة الماضي.
لأني أرفض كليهما، الماضي أرفضه لأنه منته والحاضر أرفضه لأني لست في حاضري، أنا في مكان أحفره باللغة والذاكرة، أقول هذه بغداد، هذا نهري، هذه مقهاي، هذا بيتي، لكنها غير موجودة، ما هو موجود لا أقبله، لا أقبل بغداد اليوم كما أراها، ولا أقبل العراقيين كما أراهم، العراقيون تغيروا، عاشوا أصعب مراحل القهر الذي تعيشه الشعوب، يعني لا تتصور ماسأة العراقيين، ثلاثون عاما أو أكثر من قهر سلطة ديكتاتورية صدامية لم يعرف لها التاريخ مثيلا، بعدها 14 عاما من الحصار أكل فيها العراقيون نشارة الخشب، يضعونها على القمح، الدقيق، نعم أمي حكت لي أنهم كانوا يضعون نشارة الخشب على الدقيق حتى يكفي الخبز، وعقب سقوط صدام دخلت العراق في مرحلة الدمار والعنف والتطرف الديني والقتل.
لقد عاش العراقيون قهرا لا يصدق، شوه الكثير من ملامح شخصيتهم، أنا أواجه كل هذا لدرجة صرت فيها أحن لصورة العراقي التي كنت أحلم بها في سنوات المنفى، كانت لدي صورة جميلة وعظيمة، وعندما عدت وجدت كأني أبدأ منفاي الحقيقي، هذا الزمن والمكان الذي عدت إليه لا أنتمي له، ليس هذا هو العراق، لقد بدأ المنفى الحقيقي عندما عدت وليس حين كنت بالمنفى.
وأوضح عبدالأمير “أواخر الستينيات كانت مرحلة غليان ثقافي وإبداعي، عام 1969 صدر البيان السيريالي وظهرت قصيدة النثر، الترجمات، كانت الساحة الثقافية تغلي، وكان هناك شعراء كبار، الساحة الثقافية لم تكن فقط مزدحمة بالشعر، كان هناك الفن التشكيلي، الآن حين تذهب إلى بغداد ترى نصب جواد سليم الذي نفذ 1960 قائما إلى اليوم، وبعد ما يزيد عن نصف قرن يعتبر سليم رائدا في النحت العربي، كان الاندفاع العراقي شعرا ونثرا وتشكيلا، لكنه لم يكن كذلك في النقد والقصة، هذه المرحلة كانت من أهم مراحل الانتاج الإبداعي العراقي وللآن مازال الأدباء والشعراء يتغذون منها، لأن أسئلتها مازالت عميقة ومستمرة ومتواصلة إلى اليوم.
وقال عبدالأمير “فقط هي مرحلة الستينيات التي يمكن تحديدها لا خمسينيات ولا سبعينيات ولا ثمانينيات ولا غيرها، وهذا لأسباب منها صدور البيان السيريالي عام 1969 وقرئ كأنك في باريس مع أندريه برتون. قصيدة النثر ظهرت بقوة، قصيدة النثر عتيقة بالنسبة للإنتاج الشعري العراقي، حضورها يمتد لـ 60 عاما، كنا نجلس على المقهى فيأتي إليك شعراء قصيدة النثر ليسمعوك آخر ما كتبوا، وكانت الصحف والمجلات تنشر لهم، هذه المرحلة كانت عظيمة. اليوم هناك بصمات يمكن إيجادها، لكن هناك خليطا واشتباكا وتراجعا كبيرا على كل المستويات وليس على المستوى الأدبي بل على مستوى المجتمع، النساء اللاتي كنت تجدهن سافرات ويرتدين التنانير القصيرة بالشارع، الآن يلبسن الأوشحة والللفافات، إنني لا أتعرف على الشارع العراقي الذي تركته إطلاقا، هناك ردة على كل المستويات: الاجتماعية، الاقتصادية، الأدبية.. إلخ، لكن هذه الردة طاغية غير منتصرة، انتصارها آني، لأن النار تحت الرماد، مازالت النار تشتعل، عندما تشتبك مع المشهدين الثقافي والإبداعي ترى بصمات، ترى بداية البريق، إنني متفائل بزوال الرماد وأن العراق سيعود من جديد ليؤدي دوره وحضوره الأدبي والإبداعي بشكل عام.
ولفت عبدالأمير إلى أن اليمن بالنسبة له هي وطنه الثاني، وقال “عشت في باريس من عام 1976 حتى سقوط صدام حسين 2003، عشت بجواز دبلوماسي يمني، وكنت مدير المركز الثقافي اليمني في باريس، ودخلت منظمة اليونيسكو كمستشار لمنظمة اليونيسكو كيمني وليس كعراقي، وهذا أمر لا بد أن يذكر، لأن صدام حسين أسقط عني الجواز، حين ذهبت عام 1976 إلى السفارة العراقية لأجدد جوازي فتح موظف السفارة الشباك وقال: تريد جواز؟ لو رأيتك هنا مرة أخرى سوف أضعك في كيس وأرحلك إلى بغداد. من وقتئذ كانت لي علاقة مع اليمن الجنوبي ومع السفير اليمني وأصدقاء يمنيون آخرون وقد دعوني وقالوا هذا بلدك تفضل، فعملت داخل السفارة وأصبحت الملحق الثقافي لسفارة عدن في باريس عام 1977، ومن ثم بدأت علاقتي العميقة مع اليمن.
وحول تأثير الغربة على تجربته الشعرية وكتاباته، قال عبدالأمير: الغربة ولادة جديدة، لولاها لكنت كأي شاعر عراقي بين الآلاف من الشعراء الموجودين، ولم أكن لأعرف أوروبا أو أتعلم الفرنسية، أو أترجم، أو اكتشفت قارات الدنيا.. إلخ، كنت سأصير شيئا آخر، الغربة ولادة جديدة، وتذكرني دائما كم نحن صغار قياسا لتراثنا الأدبي والشعري. وسأفاجئك بشيء، هناك مقطع شعري عمره 5 آلاف سنة لشاعر سومري، ترجم في سنوات الستينيات، وأنا أحفظه وكنت دائما ما أتذكره في الغربة، وسأقول لك المقطع وأشرحه ليتبين لك معنى الغربة بالنسبة لي من خلاله، يقول:
لقد نفتنا الآلهة
غرباء حتى مع أنفسنا
نجوس أزمنة الماضي والآتي
دون قيثارات
هكذا كان حكمنا الأبدي
ورحلة بحارة يعشقون النبيذ
هذه غربة السومري، غربتي، سوف أشرحها لك “لقد نفتنا الآلهة / غرباء حتى مع أنفسنا” يعني أول غربة لا مع الوطن ولا مع اللغة ولا مع الأرض، لا مع العائلة، ولكن مع أنفسنا، فأول حدود للغربة مع النفس، ثم “نجوس أزمنة الماضي والآتي” لم يقل نجوب لأن “نجوب” تتنسق مع الأرض، قال “نجوس” هواجس، ماذا يجوس “الأزمنة” لأنه ليس منفيا بالمكان ولكن بالزمان، لماذا هو يجوس الماضي والآتي؟ لأن الحاضر ملغى، إما أن يحلم بما كان أو ينتظر ما سيأتي، الحاضر غير موجود، مصادر، يعني أن يكون لك جسد/ وجود لكن زمنه مصادر، هذا هو المنفى.
“نجوس أزمنة الماضي والآتي”، ليس دون خبز أو نساء أو سلطة أو مال، لكن “دون قيثارات”، لم يسم إلا حاجته للموسيقى، و”رحلة بحارة يعشقون النبيذ” انظر إلى الصورة الخيالية، موسيقى وسكر وبحر ورحيل، هذا هو المنفى بالنسبة لي، يعني إذا أردت أن أوجز وبلغة نقدية تقريرية: المنفى ليس في المكان، وليس في اللغة فالإنسان ابن الأرض، الشاعر ابن الأرض، الإنسان والأرض هما الأساس، أعبر من بلد إلى بلد، ومن لغة للغة، وفي هذا مكسب وإضافة، أنا إذ أنفى، أنفى مع نفسي وذاتي، وأنفى حين يصادر حقي، وبهذا المعنى شعوب كاملة تعيش في أوطانها منفية، وذلك حين يصادر حاضرها، اليمنيون اليوم منفيون في اليمن، لأن حاضرهم مصادر، المنفى مفهوم زمني وسيكولوجي وداخلي وليس مفهوما أرضيا، لقد ولدت وتعمقت علاقتي بالخارج من خلال المنفى.
ولفت عبدالأمير إلى أنه أفاد كثيرا من الشعر الفرنسي وأن له شعراءه الذين أحبهم بين الفرنسيين ويشكلون إضافة حقيقية للشعر الإنساني مثلا هناك علاقة بودلير بمفهوم التمرد واللعنة، وعلاقة رامبو بالغضب، علاقة وأوجن غييفيك بالاختزال، لقد تعلمت من تجارب الشعراء الفرنسيين الكبار الاختزال والاختراق، كيف يكون الشاعر مسبارا، نحن نفكر في التطريز اللغوي الاستعاري، هذا صار بالنسبة لي من أمراض اللغة في الشعر العربي، صورة مركبة على صورة، إلى أين أنت ذاهب يا أخي وماذا تريد أن توصل؟ هذا التراكم الصوري الغث الخارج على البناء، القصيدة بها بنية وهندسة مثل العمارة، أنا شاعر أمومتي عربية ولكن أبوتي فرنسية.
وحول تجربة كتاب في جريدة قال عبدالأمير: هو أهم مشروع في حياتي وباعتراف المنظمة الدولية التي أعطتني جائزة عنه، هو أكبر مشروع عربي مشترك أطلقته منظمة اليونيسكو في كل تاريخها.
ولفت عبدالأمير أن توقف كتاب في جريدة هو الرد المثالي للتدهور الثقافي الذي نعيشه، ماذا نعيش على المستوى الثقافي؟ الجسور منقطعة بين الإنتاج الثقافي والقراء، أين الجسور؟ أنت تؤلف الكتاب وتطبع على حسابك ألف نسخة وتبدأ في توزيعها باليد، كما ترى يوزعونها باليد، هذا ليس نشرا ولكن “بهدله”، لا يوجد نشر ولا توزيع، لا مؤسسات ولا أكشاك ولا مكتبات، الآن العرب صاروا يبيعون في معارض الكتب فقط، المكتبات ماتت، لا يوجد نشر ولا يوجد توزيع، وأصبح هناك جيتو ثقافي في كل مدينة، لأنه لا يوجد تواصل أو جسور.