د. خالد السلطاني
الى “هيثم خورشيد سعيد”
من ضمن “خططي” في زيارتي الاخيرة لبلاد ما وراء النهر، كانت زيارة خان “رباط الملك”. كنت اعرف بان الخان يقع خارج مدن الاقليم، وحده في الصحراء، الفاصلة ما بين “سمرقند” و”بخارى”. كنت اعرف ، ايضاً، بان ما اود ان اراه، لم يكن موجوداً، في الاقل، منذ تسعة عقود خلت. ولكن مع هذا فقد “تعنيت” ان ازوره، وان اكون على مقربة منه، يحدوني امل، رؤية عمارته المدهشة، او على اقل تقدير، مشاهدة بعض مفرداته التصميمية الشاخصة، هو الذي اثرى بحضوره المميز ذخيرة منتج العمارة الإسلامية، واضاف تنويعا وظائفيا لها. كنت اعلم، كذلك، بان عمارته المثيرة، جعل منها المعمار العراقي الرائد “محمد مكية” (1914 – 2015)، مرجعية تصميمية لواحد من اجمل ما انتجته العمارة الحداثية العراقية، وانا اعني بالطبع، مبنى فرع “مصرف الرافدين” (1968) في الكوفة بالعراق؛ الذي هو الآخر، لم ينصفه “الزمن”، وتم تهديمه بالكامل، بعد انتفاضة عام 1991. وقد سعينا، نحن بعض معماريين، عندما اسسنا “مؤسسة مكية للاستشارات”، ان نأخذ على عاتقنا إعادة تشييد المبنى مجددا، كشاهد مهم في منتج العمارة العراقية، وكتحية لمسار المعمار الرائد، وبكون المبنى، ايضاً، وثيقة حضرية عالية الاهمية، بمقدورها ان تثري شواخص المكان. لم يكن مسعانا ملزماً، بان يكون المبنى المعاد تشييده، يؤدي وظيفته السابقة؛ وإنما همنا اقتصر على اهمية حضور “اميج” ذلك المبنى المميز، ليكون إحدى مفردات النسيج الحضري للمدينة، مؤدياً احدى الوظائف الثقافية او الادارية التي يفتقر اليها المخطط الحضري للكثير من المدن العراقية. لكن العقبات التي وضعت امامنا وامام “مشروعنا” الحضري والحضاري، افشلت بتعمد ، وبغيره، جميع مقترحاتنا، وافضت في الاخير، الى التخلي عن هذه الفكرةـ لاسباب لا تزال، بالنسبة الينا، غير مقنعة، وغير مفهومة.. ايضاً؛ لكن ذلك “قصة” حزينة آخرى!
قصتنا، اذاّ، “ابعد عن الكوفة… واقرب الى بلاد ما وراء النهر”، حيث ما برح يوجد، هناك، خان “رباط الملك” او بالاحرى بعض من مفرداته التصميمية، هو الذي يعود تاريخه االى (1078 – 1079)، وامر بتشييده “شمس الملوك نصر بن ابراهيم” احد الحكام القارخانيين الغربيين، الذي حكموا البلاد، ما بعد الحقبة السامانية (وبالمناسبة، فقد عمل، وقتذاك، الشاعر “عمر الخيام” (1048 – 1131>، في بلاط هذا الحاكم). كانت وظيفة المبنى، كما هي وظيفة الخانات الآخرى المماثلة، مقراً لايواء التجار وقوافلهم اثناء تنقلهم من منطقة الى اخرى ومن مدينة الى اخرى. وبناء هذا النوع “التابلوجي” Typology، من المباني، الذي يطلق عليها احيانا، “وكالة” او “كروان سراي”، معروف جدا في الممارسة البنائية سواء في بلاد ما وراء النهر ام في بقية انحاء العالم الاسلامي. وظل خان “رباط الملك” يعمل ويؤدي وظيفته حتى بداية القرن الثامن عشر. وقد زاره الرحالة النمساوي “الكسندر ليمان” Aleksander Lehmann ما بين 1841 – 1842، وعمل عدة رسومات وتخطيطات له، تعد الآن من الوثائق المهمة في تاريخ المبنى.
شهدت السبعيني ات من القرن الماضي عدة مواسم تنقيبية عملت في موقع الخان وجواره، اسفرت اعداد مخططات كاملة له مع الاهتداء الى مبنى “السرداب” القريب منه والذي استخدم كخزان مائي، يمد الخان بالماء اللازم لزوراه وحيوانتهم.
يشتمل مخطط خان “رباط الملك”، على سور خارجي بابعاد 100× 100 متر، يحيط بسياج مبنى الخان الذي قدرت ابعاده 89× 91 مترا ، والذي يتكون من جدران مصمتة تلفه من جميع الجهات. وثمة اربعة ابراج في اركانه الاربعة، يصل ارتفاع كل منها الى 15 مترا. ووفقا لرسومات “ليمان: التوثيقية، فان الجدار الجنوبي كان في وضع سليم عندما زاره في منتصف القرن التاسع عشر.
يتم الدخول الى مجمع “رباط الملك”، عبر بوابة المدخل الرئيسة والوحيدة او ما يدعى بالـ “بشتاك”. وهي تتقدم قليلا السور الاول الذي يحيط بالمجمع. وتعد هذه البوابة من اقدم بوابات مباني بلاد ما وراء النهر التي وصلت الى وقتنا الحاضر. ولهذا فانها ذات اهمية عالية في سجل عمارة هذة البلاد. و”بشتاك” المدخل، (وهي كلمة مركبة، تتألف من كلمتين “”بش”، وتعني مدخل، وآك” وتعني :”طاق” او عقد). سيتكرر استخدامه في العديد من المباني المشيدة في بلاد ما وراء النهر، بل سيرسي، هذا البشتاك، بنموذجه التصميمي تفاصيل عديد البوابات التي ستشيد بعده. وسيكون إحدى المفردات الرئيسة لخصائص هذه العمارة) انه كتلة على هيئة مستطيل، يصل ارتفاعها الى 18 متراً. وتحيط باطاره الخارجي نقشة زخرفية بارزة “رليف” من كلا الجانبين وكذلك في قمته، وهذة النقشة مشغولة بالآجر، تتكون من رسومات مجدولة لنجوم ثمانية الزوايا، تحددها اشرطة جصية. تم حفر عقد مدبب في كتلة بشتاك المدخل، وفي منتصفه ثمة فتحة مستطبلة كنابة عن فجوة المدخل وبابه. استخدمت انواع مختلفة من التزيينات في اسطح كتلة المدخل. فبالاضافة الى شريط النجوم الثمانية البارزة، هناك شريط اخر من الكتابات الكوفية تدور حول العقد. كما لونت اوجه العقد بالوان ذات صبغة صفراء، وازرق غامق مع الاحمر القاني، والتي بالامكان رؤية بقايا تلك الزخرفة الملونة الآن. واستخدم في اسطح هذا البشتاك، الذي اشتهر كثيرا في ادبيات عمارة ما وراء النهر، منحوتات ثلاثية الابعاد على شكل مقرنصات.
في اجتياز بشتاك المدخل الرئيس، سنسير قليلا وعلى محوره سنصادف مدخلا مماثلا آخراً في منتصف الجدار الجنوبي لكتلة الخان ذاته. انه بشتاك، يقع تماما على المحور Axis التماثلي لمبنى الخان. ويحيط به من الجانبين جناحين آجرين، تمت معالجة هذين الجناحين الايمن/ الشرقي والايسر/ الغربي، بنمط من زخرفة تصميمية متماثلة لكنها تبقى متميزة. وتتضمن هذه المعالجة تجميع سبعة اعمدة نصف اسطوانية آجرية، ترتبط كل اثنين منها من الاعلى بصفوف من عقود منظورية غائرة. ويحيط بهذه المجموعة من الاعمدة، جزئين من مجموعة اعمدة، عددها نصف عدد الجزء الوسطي. وتتكرر ذات المعالجة التصميمية ومفرداتها، في الجناح الايمن الشرقي، كما يستدل من المنظور الذي عُمل لكتلة المبنى من قبل المختصين الذين اشتركوا في الاعمال التنقيبية. وقد انهار الجناح العربي مع البرج الركني في اوخر العشرينات من القرن الماضي، بعد ان انهارت، قبل ذلك، مكونات الجناح الشرقي. ولحسن الحظ فثمة لقطات فوتوغرافية التقطت للجناح الايسر، يمكن بها تصور بوضوح قيمة ما تم اجتراحه تصميماً.
اظهرت التنقيبات الاثرية التي اجريت في السبعينيات من القرن الماضي، في موقع الخان وجواره، بان مخطط المبنى، الذي لم يكن احد يعرف عنه الكثير، والمبني على التماثل Symmetric، يمتلك تكوينا يعتمد على وجود مجموعة من الفضاءات المتنوعة العديدة. وهذه الفضاءات موزعة في مخطط المبنى الى قسمين اساسين، يكاد ان يكونا متساويين في المساحة: القسم الجنوبي، والقسم الشمالي. الاول مخصص الى الخدمات، والآخر الشمالي خاص بالسكن. وابتداءً من بوابة المدخل، الواقعة في منتصف الجدار الجنوبي، وعلى محوره الرئيس، سنرى ممراً عريضاً، يقود من بداية المدخل نحو القسم الشمالي للخان. وعلى جانبي هذا الممر، ثمة احياز عديدة، بمساحات غير كبيرة، مخصصة الى وظائف متنوعة، مثل المطبخ مع تنور/ فرن لعمل الخبز، وغرف خاصة بالحرس واخى للخدم وبقية العاملين في الخان. ويجاور هذا الممر الوسطى من الجهتين الشرقية والغربية، فناءان مكشوفان على شكل مربع، بابعاد تصل الى 28× 28 مترا لكل منهما، احداهما يعمل كإصطبل وحظائر للحيوانات، والفناء الآخر خاص بخزن العلف والكلأ. وفي اعلى الممر الوسطي، وعند الدخول الى القسم الشمالي من الخان، ومن جهة اليسار، تم توقيع مسجد صغير، اتسم مخططه، على شكل هندسي منتظم، مع حنية محراب زخرفت بمقرنصات جصية / ولونت بلون ازرق.
تمثل معالجة الجدار الغربي في الواجهة الرئيسة، قيمة تصميمية عالية جدا ومبدعة في ذات الوقت. فالمعمار يعي بان الاسطح الآجرية الفسيحة التي اظهرها الجدار العالي للخان الذي يحيط بالمبنى، يتعين ان تكون مادة لاهتماماته التكوينية، وموضوعاً لقدرته التصميمية، وما تمثله تلك الاسطح من “صيغة” و”صورة” يمكن بهما التعبير عن قيمة المبنى، وتبيان جماليته. كما يمكن بهما، ايضاً، التقليل من صرامته الشكلية. ولهذا فان المعمار يلجأ الى توظيف خلاق لعنصر الضوء والظلال، لبلوغ هدفه الذي وضعه نصب عينيه. من هنا، يمكن تفسير باعث وجود الاعمدة نصف الاسطوانية، وعقودها العلوية المنظورية الغائرة عميقا في الجدار وتوظيفها لهذه الغاية. وبالاضافة الى ذلك فان المصمم لا يتوانى في استخدام وايجاد منظومة تناسبية، يمكن بها ايضا تسهيل مهمته، من خلال ايجاد مواقع ملائمة للعناصر التي يتعامل معها. وحتى يتمكن من تأشير حدود “لوحة” صياغاته التكوينية، فانه يخلق شريطاً زخرفيا عريضا في اعلى الجدار، ويملئه بتفريعات لنقوش زخرفية نباتية وكتابية، ينهي بها حركة مفردات الواجهة ويحدد تخومها. وفي الاخير، فنحن امام محاولة لاجتراح واجهة مميزة تصميمياً، واسثنائية في قيمتها الجمالية، بالنسبة لسياق الممارسة الشائعة في تنظيم واجهات المباني الاخرى ابان تلك الفترة. كما عُدّت محاولة المعمار هذه، من المحاولات اللافتة في منتج عمارة بلاد ما وراء النهر. وقد كتبت الباحثة الانكليزية المختصة في عمارة آسيا الوسطى “تمارا تالبوت رايس” عن تلك الحالة مايلي “< انها تبدو حداثية بصورة مدهشة، لجهة خطوطها المعبرة واسلوب منظومتها التناسبية. ومن الصعب تصور مكان، يمكن به بلوغ طريقة تظهر مزايا الاعمال الآجرية باسلوب مبهر، كمثل هذا المكان!.
ورغم ان المبنى الآن، لا يعطي انطباعاً حقيقيا، عما كانت تمثل عمارته من اجتهاد تكويني مبدع، فان الوقوف امام مدخله الفخم، والتجوال بين اثاره المرتفعة قليلا عن منسوب الارض، يمنح المشاهد (منحنى شخصياً) احساساً خاصاً مفعما بالغبطة والبهجة في آن.