إروين شو الذي لا نعرفه

جودت هوشيار

لا أميل الى قراءة أدب الحرب، أو مشاهدة الأفلام الحربية، فقد أتخمنا بمئات الروايات والأفلام عن الحروب، التي لم تتوقف يوما في التاريخ البشري، ولكنها باتت أكثر بشاعة، مع تطور آلة القتل. وضاع عمر جيلنا في أجواء الحروب، ما أن نخرج من حرب، حتى تداهمنا حرب جديدة أشد ضراوة من سابقتها، وليست ثمة حروب جيدة، وأخرى سيئة، كما تزعم البنتاجون، فهي كلها مآسٍ ودماء ودموع.

كانت رواية “الأشبال” هي اول ما وقع في يدي من نتاجات الكاتب الأميركي “اروين شو”، و”الأشبال” عنوان، لا تشمّ منه رائحة الحرب، ويتبادر الى الذهن، أنها ربّما رواية عن الحيوانات، أو الصيد في مجاهل أفريقيا. ولم أكن أعرف أن شو، أعد لنا – نحن الذين لا نقرأ أدب الحرب – مقلباً ذكياً ومثيراً. فما أن تبدأ بقراءة الصفحات الأولى منها، حتى تجد نفسك أمام شخصبة جذّابة – فتاة أميركية جميلة تظهر في الفصل الأول من الرواية، ثم تصحبك من جديد في بعض الفصول الأخرى، لتجد نفسك في أجواء أشرس معارك الحرب العالمية الثانية، وتتابع بشغف مصائر الشخصيات الرئيسية للرواية، وهم ثلاثة جنود؛ أميركيان اثنان وثالث ألماني.

ولد شو في عام 1913 في نيويورك في أسرة مهاجر أوكراني. وهو ينتمي الى الجيل التالي لجيل الكتاب الاميركيين العظام: فيتزجيرالد، وهمنغواي، وفوكنر، وتوماس ولف، ودوس باسوس. ويمكن القول إن شو، ووليم سارويان، والكاتب الزنجي، ريتشارد رايت، والكاتب المسرحي ليليان هيلمان، وروبرت بين أورين، هم في طليعة الكتّاب الأميركيين، الذين بدأوا حياتهم الأدبية في النصف الثاني من الثلاثينيات، ومن أكثرهم موهبة وشهرة. كانت الولايات المتحدة تعاني في هذه الفترة من الآثار العميقة للأزمة الأقتصادية، التي هزت البلاد في أوائل الثلاثينيات. وهي سنوات زاخرة بالأحداث الجسام، ليس في حياة المجتمع الأميركي فحسب، بل وفي حياة المجتمعات الأوروبية أيضاً. كان الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت يخطط لنهج سياسي جديد. وفي أوروبا كانت النازية الألمانية تحلم بالمجال الحيوي، وبوادر الحرب العالمية الثانية تلوح في الأفق – في مثل هذا المناخ بدأ شو حياته الأدبية، وسرعان ما لفت إليه أنظار النقاد والقراء على حد سواء، ككاتب مبدع يمتلك وعيا عميقاً وحسا مرهفاً ازاء التناقضات الإحتماعية وهموم الملايين من الناس البسطاء.

لقد أثبت شو منذ خطواته الأولى في عالم الأدب، أنه صاحب أسلوب متفرد، وموهبة أصيلة وذلك عندما نشر في عام 1936 مسرحية ذات فصل واحد تحمل عنوان “ادفنوا الموتى”، التي سلطت الأضواء على الكاتب، وترجمت في السنة ذاتها الى اللغة الروسية ونشرت في مجلة “نوفي مير” السوفيتية الشهيرة. وهي إحدى المسرحبات التي اختارها الناقد المسرحي والمنظر الجمالي الاميركي “جاستر” ونشرها ضمن كتاب “أفضل عشرين مسرحية معاصرة”.

كتب شو هذه المسرحية، في وقت أخذ فيه شبح الحرب القادمة يخيّم على أوروبا. وتدور أحداث المسرحية حول خمسة من الجنود القتلى الذين يرفضون الموافقة على دفنهم. وهي إدانة قوية للحروب على مر العصور. وقد شرح “اروين شو” هدفه من كتابتها في مقال نشره فى جريدة “النيويورك تايمز” قال فيه:

“هذه أول مسرحية يكتبها شاب لا يريد أن يقتل، ويعتقد أن هناك عدداً كبيرا من الشبان يشاركونه الرغبة نفسها، ويتمنى لو أثرت فيهم هذه المسرحية، لأنه سيأتي وقت عما قريب يطلب فيه من هؤلاء الشبان أن يغامروا بحياتهم في قتال محفوف بالمخاطر، سينتهي بأن تقضي عليهم أجهزة الحرب الضخمة التى أعدت إعدادا ممتازا”.

المؤلف يعبّر هنا، عن موقفه الرافض للحرب بلسان الجنود القتلى الثائرين الذين يخاطبون الجمهور في صالة المسرح.

وفي عام 1937 نشر شو مسرحية “الحصار” وهي مسرحية مناهضة للفاشية. ثم جاءت مسرحية “حياة بروكلين الرغيدة” (1939) لتوطد مكانة شو ككاتب مسرحي مرموق. ولقد إقتفى شو في هذه المسرحية أثر الكاتب الأميركي “دشيل هاميت” الذي نشر في أوائل الثلاثينيات عدة روايات سيكولوجية حادة وفاضحة عن عالم الجريمة المنظمة، منها “صقر مالتا” (1930) و “المفتاح الذهبي” (1931) .

وفي الفترة ذاتها أخذ اروين شو ينتزع الاعتراف به كقاص موهوب، فامتدت شهرته وازدادت مكانته الأدبية رسوخاً، فأخذت كبريات المجلات الأميركية في ذلك الوقت مثل مجلة “نيويوركر” ومجلة “اسكواير” ترحب بنشر قصصه القصيرة.

وفي عام 1939 جمع شو هذه القصص في كتاب أصدره تحت عنوان “بحار من بيرمن” وبعد ثلاث سنوات أصدر مجموعته القصصية الثانية “مرحباً بالقادمين الى المدينة الكبيرة” وفي السنة ذاتها التحق شو بالجيش الأميركي كجندي بسيط، ثم أصبح مراسلاً حربياً، وقام بتغطية سير معارك الحرب العالمية الثانية في شمال افريقيا، وفي انجلترا وفرنسا وألمانيا.

لقد تركت هذه الحرب الطاحنة آثاراً بالغة في حياة وأدب شو وأمدته بتجارب خصبة أصبحت مادة أولية لروايته الأولى “الأشبال” ( 1948) التي احتلت فور صدورها، رأس قائمة الكتب الأكثر رواجاً، وقوبلت بإهتمام عظيم، لا يقل عن الإهتمام الذي حظيت به رواية نورمان ميلر “العراة والموتى” (1948).

ويمكن القول إن هاتين الروايتين بالإضافة الى الى رواية د. جونس “من هنا الى الأبد” (1951) ورواية د. هولر الساخرة “المصيدة -22” (1961) تعتبر من أفضل الروايات التي كتبت عن الحرب العالمية الثانية.

وقارن البعض رواية “الأشبال” برواية ليف تولستوي “الحرب والسلام” مما أثار غضب النقاد والأدباء الأميركيين وبضمنهم همنغواي، الذي سخر من هذه المقارنة وأطلق على شو – في احدى رسائله – اسم “تولستوي بروكلين”. فرد عليه شو قائلاً: بابا همنجواي لا يعجبه من يدخل الى ساحته الأدبية، التي يعتبرها من ممتلكلته الخاصة”. ويقصد شو بهذا التعليق أن همنغواي كتب أيضا عن الحرب، ولا يريد أن ينافسه أحد في هذا المضمار.

ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتنافس فيها الكاتبان. فقد قال همنغواي إنه حرّر فندق “رتس” في باريس خلال الحرب العالمية الثانية. أما شو فقد كان يتفاخر بأنه حرّر مقهى “تيب توب” في مونتي كارلو، وانه أول من دخل “موناكو” مع وحدة من الجنود الأمبركببن في سبتمبر/أيلول عام 1944. وقبل ذلك بعدة أشهر، عندما كانت لندن تتعرض الى قصف الطائرات الألمانية كان شو يمر بتجربة حب حميمة مع المراسلة الحربية “ماري ويلش”، ففي مايو/أيار عام 1944 عندما كان شو، وويلش في أحد مطاعم لندن، اقترب همنغواي منهما، وطلب من شو تقديمه الى صديقته الشقراء الساحرة . وسرعان ما وقع همنغواي في غرامها، وبعد أن تحررا من ارتباطاتهم الزوجية السابقة، توّجت هذه العلاقة بالزواج عام 1946، وأصبحت زوجته الرابعة والأخيرة. وفي وقت لاحق صوّر شو شخصية ويلش بسحرها المدهش في رواية “الأشبال” تحت اسم لويز.

شو .. كاتب بالغ الثراء والخصوبة فقد كتب خلال الخمسينيات والستينيات أربع روايات أخرى هي: “الهواء المضطرب” (1950) و”لوسي كراون” ( 1956″ و”اسبوعان في مدينة أخرى” (1960) و”اصوات يوم صيفي” (1965). وعشر مجموعات قصصية أصدرها في الفترة ذاتها تقريباً منها: “جماعة مختلطة” (1950) و”رهان على ميت” (1957) و”حب في شارع مظلم” (1965).

في عام 1951، غادر اروين شو الولايات المتحدة إلى أوروبا، حيث عاش لمدة 25 عاما، لا سيما في باريس وسويسرا. وكتب شو العديد من السيناريوهات لأفلام ناجحة أنتجت في هوليوود رشح بعضها لجائزة الأوسكار.

“رجل غني .. رجل فقير” من أفضل روايات اروين شو، وقد صدرت عام 1970، وتتناول قصة عائلة مهاجر ألماني الى الولايات المتحدة الأميركية، دمّر أفرادها أنفسهم، لأنهم آمنوا بالمثل الأميركية والقيم الزائفة، وظنوا أن المال يجعلهم سعداء. وقد حوّلت الرواية الى مسلسل تلفزيوني ناجح في اميركا عام 1976 وفي ليتوانيا عام 1982.

وبعد صدور هذه الرواية الرائعة، كتب شو ست روايات أخرى “مساء في بيزنطة” (1973)، “عمل ليلي” (1975)، و”اللص المتسول” (1977)، و”قمة التل” (1979) و”خبز فوق الماء” (1981)، و”الخسائر المقبولة” (1982) ولكنها قوبلت ببرود من قبل النقاد رغم نجاحها الجماهيري. ويمكن القول إن النقاد لم يكونوا منصفين مع شو أحياناً، فهم ينتقدونه لأفتقاد هذه الروايات الى العمق السايكولوجي المطلوب، رغم اعترافهم بأسلوبه الشائق وقصصه المتقنة البناء.

وينبغي أن لا ننسى أن القراء هم الذين يحددون مصائر الكتب، لا النقاد أو الأكاديميين. أعمال شو كانت وما تزال تلقي رواجا كبيراً في العالم الغربي وأوروبا الشرقية، وترجمت الى ثلاثين لغة من أهم لغات العالم، وصدرت مؤلفاته الكاملة في ثمانية أجزاء مترجمة الى اللغة الروسية، إضافة الى طبعات متفرقة لرواياته ومجاميعه القصصية. وبلغ اجمالي ما تم بيعه من كتبه أكثر من 14 مليون نسخة في أنحاء العالم، وعرضت مسرحياته على مسارح واشنطن وباريس وموسكو والقاهرة.

إن نتاجات شو متفاوتة القيمة والمستوى من الناحية الفنية، وربما كانت القصة القصيرة، هي أكثر الأجناس الأدبية التصاقاً بموهبته ككاتب. أما رواياته الطويلة فإنها لا تخلو أحياناً من بعض النبرات الميلودرامية، والترهل اللفظي، والإغراق في التفاصيل. بيد أن هذه المآخذ لا تقلل كثيراً من قيمة رواياته، ذلك لأن ما يشغل بال الكاتب دائماً هو القضايا الأساسية التي يواجهها الإنسان المعاصر، وخاصة في مجتمع متطور كالمجتمع الأميركي، مثل دور المواطن الأميركي العادي في النضال ضد الفاشية في “الأشبال” والزيف السياسي والروحي للمكارثية في “الهواء المضطرب” ومسؤولية الفنان ازاء المجتمع وإزاء موهبته في “اسبوعان في مدينة أخرى”.

شاهد أيضاً

٤٥ ألف كتاب مجاني بأكبر مهرجان للقراءة في العراق

انطلاق الموسم ١١ لمهرجان “أنا عراقي أنا أقرأ” بحضور أكثر من ٣ آلاف شخص شهدت …

error: Content is protected !!