التفسير الاجتماعي لما بعد الحداثة

صالح الرزوق

يبدأ كتاب (الحداثة السائلة)* لزيجمونت باومان بالتأكيد على قيمة الحداثة ويعتقد أنها ضرورة لضمير الإنسان الملتاع والمشرف على الانهيار والسقوط. ولا سيما بعد أن تعرض لعدة خيبات أمل، وبعد أن تزعزعت ثقته بأصوله وماضيه. لكن باعتبار أن الحداثة بلا شكل نهائي وتميل للذوبان وتجاوز حالة الركود يفضل تسميتها بالحداثة السائلة. ثم يدخل مباشرة في تفنيد الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية لحداثة بلا تخوم، ويرى أن ما يجري في الصين هو أول سبب لانفجار الحداثة ولخلق حالة هيجان اجتماعي. ويعزو ذلك لتراكم بدائي لرؤوس الأموال. فهي بذرة  الاضطراب أو الشرارة السياسية الأولى التي تهيئ المجتمع للانقلاب على ذاته. لأن المستهلك والمنتج سرعان ما يستجيران بالنظام الدكتاتوري لتوجيه الدفة وتنظيم العلاقات وتوزيع الحصص. (ص 30). ويجادل باومان أنه لا يمكننا أن ننظر الآن لمفهوم الحدود كما كنا ننظر إليه قبل عدة عقود. ويبني باومان على ذلك قراءته لمقارنة ابن خلدون بين البدوي الطيب وابن المدينة الشرير. (ص 54). لقد كان ابن خلدون غير بعيد جدا عن جورج أورويل وهكسلي في افتراضاته حول الدايستوبيا. وسلسلة رحلاته التي دونها في كتاب بعنوان (رحلة ابن خلدون) تحمل أكثر من إشارة لفانتازيا تاريخية تتصور النشاط النفسي للأفراد وتسقطه إسقاطا على حياة وتنظيم الجماعات البشرية. ويمكن أن تقرأ في هذه المدونة مئات الكلمات الوجدانية والتي تدل على العاطفة مثل: إجلال، ود، شفقة..,. إلخ (ص 108) .

ثم يعمد باومان للتمييز بين الحرية الذاتية والموضوعية (ص59). ويرى أن مبدأ الحرية الغربي له مظهر (في البنية الفوقية فقط) وجوهر (في البنية التحتية لعلاقات الإنتاج). وهنا تأتي أهمية أو بالأحرى مشكلة الفصل بين السلطة (القدرة على الفعل) والسياسة (الرغبة بالفعل). ص 89 ، أو الفرد الصوري (بحكم القانون) والفرد الفعلي (بحكم الواقع) ص 89.

ومن هنا تنجم الثورات الإنسانية ضد لا إنسانية الواقع الإنساني (ص 92). وأحب أن أضيف إن الحداثة هي فلسفيا ثورة ضد نفسها وضد ماضيها. فهي تقاوم الجمود وتحاول أن تكون جزءا من حركة الأفكار المتحولة بدافع من تقدم التاريخ واكتشافاته وتعاليه على ذاته. لكن لا أفهم لماذا يرى باومان أن الواقع هو الحقيقة وأن التفكير هو صورة الخيال. (ص 93).

ويمكن أن تفهم من باومان أن العلاقات الرأسمالية خلقت نوعا من التراكم على مستوى الأفراد. وهو تراكم احتياجات، بينما على مستوى المؤسسة هو فائض. ويستغل باومان هذه الحقيقة ليوزع المسؤوليات وليفصل التصميم عن التنفيذ. وبتعبير باومان إن الأنظمة الاجتماعية الجديدة وظفت نتائج التطور الصناعي لاستعباد الإنسان وليس لتحريره. وقد حاولت المرحلة الصلبة للحداثة أن تتغلب على القيود التي وضعها النظام لنفسه بكسر علاقة رأس المال بالمكان، وتحويله إلى رأسمال متحرك أو متنقل. وهو ما تحقق من خلال ثورة الصناعات الصغرية أو نظام العولمة. (ص 110). ويرى باومان أن للاستهلاك قوانين يجب مراعاتها. والمشكلة الآن من يسن هذه القوانين؟.

ولذلك يمكن أن نربط المجتمع الحالي بأزماته. فهو مجتمع تأزم ويتحرك من خلال إغلاق ملفات أزمة والتورط بغيرها، وليس بدواعي النضوج والتطور فقط. فالحروب المدمرة والتي لها طاقة نيران تفني حقبة كاملة من التاريخ أتت أدواتها أثناء البحث عن مصادر جديدة لحل أزمة الندرة في الغذاء والمياه. ولتوفير وسائل طاقة بديلة بسبب انحسار مصادر الطاقة التقليدية. وربما لهذا السبب يجب أن ننظر للحداثة وما وراءها على أنهما نتاج للطريقة التي نعقل بها إحساسنا بالتاريخ وليس الجغرافيا. أو تعاقب الأزمنة وليس الحركة من مكان لآخر  كما يقول باومان (ص172). وقد تبلور هذا التعريف بأوضح صورة في العصر الحالي الذي يسميه باومان عصر الحداثة الخفيفة. وكما يرى نحن الآن محكومون بصراع قوتين أساسيتين: الأولى هي القدر الذي يفرضه علينا السوق، واتجاه الحياة المصنوعة التي نفرضها بقوة العمل العضلي والعقل، وبغاية استكمال النواقص أو تحسين شروط الحركة. فالسعي لبلوغ الكمال مهمة لانهائية وهي التي تدفعنا باتجاه هدف معين وللتخلي عن شروط غير مقبولة. (ص 200). ويسمي باومان هذه الحركة: الصراع من أجل البقاء في ظروف جيدة. بمعنى أنه يحدد جهود الحداثة بشروط البقاء وليس بمبدأ البقاء المجرد.

ولذلك لا أستطيع أن أفهم لماذا يجب أن نؤمن (كما فعل الإنكليز) بسقوط  الصلة بين الكدح البدني ومصدر الثروات والرفاهية، وبين الصيغ الذاتية الخاصة بالتعبير عنها (والمقصود بالصيغ الاتحادات والنقابات) (ص207). فالحداثة قيمة ذاتية تنبع من نفسها. بمعنى أنها فينومينولوجيا نوعية لا تعرف معنى حد الكفاية، وتنقلب على ماضيها باستمرار.

وقد شهد تبادل المنافع المتحولة أيضا قفزة مماثلة في بناء العلاقات وحلت المعاشرة بطبيعتها المفتوحة والاختبارية محل الزواج (ص 216) بطبيعته المستقرة والمعرضة أكثر من سواها للقسر وهضم الفوارق وانتظار القدر ليتدخل ويقول كلمته.  وهذا هو تعريف الحداثة الخفيفة والعائمة. (ص2017). وينحت لها باومان اسما مبتكرا هو الإرجاء. بمعنى إرجاء الإشباع.

وإذا كان الإشباع المرجأ يضمن استمرار الجهد في العمل كما يؤكد باومان (ص 230 ) فإن الخلاف المؤجل يضمن للحداثة أن لا تتكتل على نفسها وأن تدخل في عدة دورات من التراكم ثم التحول الشكلي والمعرفي.  وهو ما يقول عنه بيير بوردو إنه انعدام الاستقرار في زماننا. (ص 231).

ثم يتكلم باومان عن دور الجماعات في العمل و يعزو لها توجهات قومية ويحدد ركائزها بما يلي:

1- تطبيع التاريخ وإيلاء الجانب الثقافي أهمية قصوى.

2-التعبير عن الحقيقة الاجتماعية بدولة الأمة.

3- الوطنية خطاب صيرورة والأمة خطاب وجود. وكلتاهما ليس له ثقة بالخيار وإنما بالوجوب والحتمية. ولكن الصيغة الأولى لها خاصية استيعاب الغرباء بينما الثانية تعمل وفق منطق الإقصاء واللفظ. (ص249).

ثم يقترح أن التأليف بين المصالح المتعارضة هو السبيل الوحيد لذلك. وهو أفضل من قهرها. (ص250). ويسمي هذا الحل بالتعددية (ص251). وبه تحقق الذات التطابق أو أنها تعقد تفاهمات مع الاعتراف بوجود خلافات يمكن التفاوض عليها (ص 251). وهذه صيغة معدلة لهوية تجيز العمل المشترك ضمن إطار المفهوم الحالي لمجتمع الحداثة الصناعية الخفيفة والمرنة. (ص 251). ولا يفوتني هنا التذكير بشعار البورجوازية الثورية الذي يقول: دعه يعمل.  فقد أعقبه مباشرة شعار رديف وهو : دعه يمر.

أي أن العمل حركة، وهو جزء من دورة الطبيعة وتحقيق الحرية الضرورية للتاريخ.

* الحداثة السائلة: زيجمونت باومان. ترجمة حجاج أبو جبر. تصدير هبة رؤوف عزت وزيجموند باومان. منشورات الشبكة العربية للأبحاث والنشر. بيروت. 2016.

شاهد أيضاً

إصدار جديد عن وزارة الثقافة… رحلتي الأولى في العالم

ضمن توجيه رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني بالأهتمام بالطفولة، صدر عن دار ثقافة الأطفال …

error: Content is protected !!