التاريخ السياسي في رواية “دَمُهُ”

صوتها – صالح الرزوق

في رواية “دمه” لمحمد الأحمد، الصادرة عن دار فضاءات في نهاية العام 2017، قراءة إسقاط للتاريخ. فاختيار الكوفة وشجرة النزاعات الدموية بين الوالي مع أفراد أسرته من جهة، ومع الخليفة الأموي في دمشق من جهة ثانية، نفهم أنه يقصد المشابهة والمماثلة. وهذه الحيلة الفنية معروفة منذ عام 1960 وقد فرضها شرطان.

ـ رفع لواء التحديث والابتعاد عن المحاكاة والمباشرة.

ـ ثم الخوف من محاسبة السلطات ولوبي الرأي العام الذي يفرض حدودا تقيد حرية التعبير مثل أي طاغية أو حاكم مستبد.

تبدأ الرواية عام 119 هجرية بمشهد مقابلة في البلاط، وتنتهي عام 121 هجرية بمشهد تعذيب وقتل سياسي في السجن، وبينهما تتفرع مجموعة من الحكايات الجانبية التي تستغلها الرواية لتقديم تفصيلات عن الحياة الفكرية النشيطة في تلك الآونة. ولكن لا بد من الإشارة إلى أن الكاتب ركّز على الفلسفة الباطنية وقطاع الرؤية من الفكر الإسلامي، بدون مزيد من التحديدات، وربما تفهم منه أنه يفضل البحث في مضمار اللاشعور وثقافة الأعماق. ولذلك كانت كل اقتباساته وإشاراته المرجعية من بين شطحات الهرمسية والتصوف وأهل الكلام والرؤية. مع أن المحاور الفاعلة على سطح الأحداث كان أبطالها حصرا من الخوارج وبني عبد شمس أو أكابر بني أمية.

لا تستطيع أن تقول إن الرواية تاريخية، ولكن إطارها تاريخي، بمعنى أن الأحداث تجري في وقت بعيد عن العصر الراهن، وفي العصر الذهبي للأمويين. ومن الواضح أنه عصر هشام بن عبد الملك (أبو الوليد الأول) وخلال ثورة زيد بن علي الذي خرج في الكوفة ثم اعتقل ولاقى حتفه عام 122 هجرية، وهذا يفسر أجواء الرعب والخشية التي هيمنت على الأحداث وبالأخص بين جدران البلاط. ولا بد لنا من أن نتساءل: ما هو المقصود من هذه الاختيارات وهذا المضمون؟ هل يشير محمد الأحمد للنزاع بين الأقليات والنظام الذي أحكم قبضته على البلاد لسنوات طويلة؟

من الجائر أن نقرأ عملا فنيا رؤيويا بهذه البساطة والمباشرة، ولاسيما أن أجواء الشرق كله مشحونة بالنزاعات، أضف لذلك أن الرواية لا تخلو من إشارات ذات معنى لمكة وخراسان ثم دمشق ونواحيها. وهذا يوسع رقعة التفسير ويعمم الإشكالية، ويحولها من مجرد تحليل سياسي فوري إلى تفكيك لخريطة النزاع مع رسم لتضاريس العقل العربي وعلاقته بالواقع.

لقد فعل ذلك حميد العقابي في معظم أعماله، ومع أنه كان أوضح في الإشارة للمشكلة العرقية والطائفية، لكنه لم يوفر أي جهد في الترفع عن لغة البروباغاندا والعمل على تجريد الصور والأفكار. وأفضل مثال على ذلك روايته المتميزة «المرآة» ثم سيرته الذاتية «أقتفي أثري»، فقد مدد مساحة الأحداث من بغداد والبصرة لتشمل مرتفعات كردستان ومناطق الغابات والثلوج في إيران، وهذا يحرر للرواية وثيقة براءة من أي تأثير ممكن لمدرسة جرجي زيدان التاريخية. فقد كانت سلسلة روايات تاريخ الإسلام المشهورة تعتمد أساسا على التشويق والتسلية، مع كثير من الاختراقات لجسم المدونة، وكثير من الاجتهادات، إنما ليس بهدف ملء الفراغات لو وجدت، وإنما لتحقيق مبدأ مادية الواقع وعدم تعاليه على الموضوع. إن تعقيم المدونة من شبهة أنها مقدسة، ولها أهمية ومعنى وحي لا يمكن المساس به، أو الشك بمصداقيته كان واجبا تنويريا. وأعتقد أن ما يفعله محمد الأحمد هنا يدخل في مضمار موجة التنوير الثانية. فهو يعمل جهده كي لا تتحول الحداثة إلى نشاط محافظ وبارد ويكرر نفسه، ولذلك استعمل أساليب الحداثة الكلاسيكية نفسها، وهي تكنيك الأصوات وأسلوب اللاشعور، وجرّدها بشكل قراءة من درجة لاحقة، بمعنى أنه كان يبني نصه على نصوص افتراضية أو مخطوطات، وكانت هذه هي الحبكة أو الحجر الذي ألقاه في الماء الراكد.

من بين أهم حكايات الرواية مشكلة المخطوطة التي تعاملت معهـــا السلطات كأنها منشورات سرية، وطاردت حاملها، وأودعته رهن الاعتقال. وبهذه الحكاية رفعت الرواية الستار عن حقائق الحاكم وعن مجونه وعن خبايا السجون التي يديرها.

لكن لا أريد أن يفهم أحد أن الرواية اهتمت بمجتمع الكوفة وحياة أهلها، فقد اقتصرت الشخصيات والأحداث على النخبة الحاكمة، وكانت التطورات تدور بين أربعة جدران وفي الغرف الموصدة التي يصعب للعامة أن يصلوا إليها. وقد أسهب محمد الأحمد بما فيه الكفاية في وصف التكتم على حياة الوالي وصعوبة دخول أحد إلى بلاطه. ناهيك عن مشكلة الخروج منه. فالداخل ميت كما يقول بالحرف الواحد. ولا يخرج أحد إلا إذا أسعفه حظه. بمعنى أن شخصه مثل لسان النار، إن اقتربت يكشف خباياك ويجعلك عرضة لعيون البصاصين والرقباء، وإن اقتربت أكثر تحترق أو تموت وتتحول حياتك لحفنة من الرماد. وبالنظر لهذا الجو أجد أن رواية «دمه» هي في الواقع جزء من الإضافات الفنية لموجة إحياء الأدب القوطي، فالأبنية تزينها الشمعدانات المبهرة، وتحيط بغرفة الإمارة جدران سود وبلا نوافذ، وتتراقص على أرضها الظلال، ويقود إليها باب من الشخب الثقيل الذي يصر صريرا. مع جرعة مزدوجة من مشاعر الرهبة والشك، وكل ذلك يضعها ضمن فلسفة بلاغية شديدة التعقيد تهتم بمشكلة العقل المؤجل. بتعبير آخر، إنها تحاكي (باللاشعور) ما تفعله على سبيل المثال الرواية الفكتورية المعاصرة. وفي الذهن أعمال سارة وورترز. وعلى الرغم من أن روايات ووترز تهتم باللامفكر به، لأسباب الحياء والخجل، وأقصد تحديدا الغرام المثلي بين النساء، لكن أن تضع التاريخ في المقدمة، وانحرافات المجتمع الراهن في الخلفية، سيساعد على كشف مناطق الخلل في حياتنا الراهنة، والإجراءات المطلوبة لتحاشي المزيد من التورط والسقوط. وأعتقد أن هذا ما نذرت رواية “دمه” نفسها له، فهي كلام مبطن عن الطغيان ودورة العنف وما يقوداننا له من نكبات ومصائب.

شاهد أيضاً

ناسا تخصص 3 مليون دولار لمن يحل معضلة “القمامة على القمر”

تُقدم وكالة ناسا الأميركية جوائز نقدية بقيمة 3 ملايين دولار لمن يُساعد في حل مُشكلة …

error: Content is protected !!