صوتها – نادية هناوي
يمنح توظيف الصمت في قصــــيدة ما بعــــد الحداثة هويتها، انطلاقا من مقصـــدية تحقيق التوصيل الميتالساني، الذي يحيل ما هو صوتي إلى كيان مرئي، وبذلك تقلع الأذن عن أداء وظيفتها، كقناة توصيل جزئية، ويستعاض عنها بكليانية توصيلية ممثلة بالجسد الذي سيكون بمجموع أعضائه القناة البديلة، التي توصل ما لا يوصل بالحواس الخمس أو باثنتين منها، والسبب أن الأصوات والصور ما عادت قادرة على أداء ما تبغي الذات الشاعرة توصيله للمتلقي..
والمراهنة على الصامت هو نوع من التعبير عن انتفاء حاجة الذات إلى الصوت، واضعة ثقتها بالمرئيات واللامرئيات معا متجاوزة السماع الذي أثبت عجزه عن الانتفاض والرفض.. وأنه مهما طغت الأصوات فإنها لن تحيل الوجود إلى ضوضاء صاخبة، تشتت العقول وتصدع القلوب فتغيب الحقيقة ويتبعثر الفكر ويتلاشى المضمون. وفي خضم الصخب والهرج تفقد الأصوات قدرتها على أداء دورها في التأمل، ويخيب مسعاها في أن تسمو بالنفوس أو تصمد أمام الزيف والانهيار والحضيض.
وإذا كان الصوت في القصيدة الحداثية يتجاور مع الصمت في ثنائية يكافئ أحدهما الآخر، فإن في قصيدة ما بعد الحداثة سينتفي الازدواج الثنائي وتتم مصادرة التلاحم لصالح أحادية الصمت التي تتجاوز التضاد رافضة الازدواج. إن الصمت في شعر ما بعد الحداثة، عالم لوحده يفرض رهبته على الماديات مسموعات ومرئيات وملموسات ومشمومات فلا يعود لصخبه المشوش قدرته على جعل الإنسان مغيبا فيه، متلاشــــيا في العجيج ومتشائما من الضجيج محتدما في الغلو.
وليس أمام الشاعر إلا أن يختزل الكلام بالصمت، ويختصر الهوس بالخرس ويحول الأنين إلى إنصات، ويكبت النطق كي تنطلق الأضواء في عالم لم يعد يملؤه إلا الهمس على وجل والتأمل على خفر بلا نهر ولا إيماء، وتصير الصور منطوقات بالعين لا باللسان. وبهذا تفرض القصيدة حضورها الطاغي الذي به يتهادى العالم من مادية فانية إلى سرمدية دائمة، فيرى الوجود عالما من الملكوت، وهكذا يضمحل الاستغلال والاضطهاد الذي كان قد عم العالم الأرضي بالسواد، ليتحول إلى صفاء وسلام في ظل عالم علوي مزده بالبياض. وعلى الرغم من قدرة الصوت على التجسيم والتشخيص؛ فإن الصمت في شعر ما بعد الحداثة لن يكون هو التجرد والجمود، بل سيغدو بمثابة القبس الذي يقدح شرارة التطلع والاستبصار، فلا يختبئ الشاعر خلف استعارية الكلمات وكنائيتها، إنه الآن يتمظهر ولا يتوارى يقدم القصيدة وهو أمامها ولا يتوانى من أن يصارح ويكاشف غير آبه أن تكون ذاته هي موضوع القصيدة وأساسها وكيانها.
وهذا هو التحول الذي تعمدت قصيدة ما بعد الحداثة صنعه، وهكذا يغدو مسعى القصيدة أنها تريد الشاعر هو القصيدة والقصيدة هي الشاعر ككيانين يبزغان كي يقلبا العقل ويقوضا شكه ويدفعانه إلى اللاعقل. وما ذلك إلا لان حضور المبدع لا يضاد غائية القصيدة، كما أن غيابه لا يعني نجاح القصيدة، كون الإبداع هو البغية والمنال الذي ينطلق من رحم المبدع، ومثلما أن الشعر ليس هو الرحم الذي يصنع القصيدة فكذلك الشاعر ليس وليد القصيدة، بل القصيدة هي الوليد. وهذا ما لا يبرهن عليه إلا بالصمت، كما لا يمكن إثباته إلا بالتأمل وبهذا تنتفي الحاجة إلى الكلام، ولا يعود للصوت أي أهمية. وهذا لا يعني عودة الهيمنة المركزية للشاعر على القصيدة بالمفهوم السياقي، ولا هي لا مركزية المبدع بالمفهوم البنيوي المحايث؛ بل هما معا أعني مركزية المبدع والقصيدة، من خلال اتحادهما ببناء ابستمولوجي ميتاشعري. وليس الصمت وحده هو القادر على إثبات هذه الفرضية التصورية للوظيفة الميتاشعرية إنما هو أهم التوظيفات وأكثرها مواءمة، وبما يحقق مقاصد شتى. وتتوقف ملاءمة الشكل الشعري لهذا النمط من التوظيف على قدرة الشاعر وإمكانياته الفنية والتقنية في توجيه الشكل الشعري باتجاه ما بعد حداثي، كاستعمال القصيدة الإسمنتية أو الشعر الكونكريتي والشعر التجسيدي الصوري، ناهيك عن قصيدة النثر والقصيدة الحرة وقصيدة التابلو. وهذا الشكل الأخير هو الأسلوب البنائي الذي اعتمده الشاعر الإنكليزي المعاصر أندي كروفت، الذي جعل القصيدة في شكل تابلو يتمحور كلوحة تعج بالصور السمعية، ذات الهول والوقع والقوة، لتتحول من الجلب والهياج إلى الهمس الذي يطغى عليه الخفر والخفوت، متحدية الإيقاع بنبراته وتوزيعاته، واتساقاته الذي سيغدو عبارة عن جرس خفوت يشيع السكون لا الحركة.
وهذا ما نلمسه في قصيدته «خرافة تليماونيتك» التي يتفنن فيها الشاعر أندي كروفت على المستوى الموضوعي، مراهنا على الصمت، جاعلا المستوى الفني منصاعا لهذه المراهنة، عبر القصيدة التابلو التي التزمت التوزيع الصوتي المتزن في ثمانية مقاطع، وفي كل مقطع أربعة أسطر ينتظمها وزن واحد وتفعيلات متساوية. وما كان للشاعر أن يوجه القصيدة وجهة ما بعد حداثية إلا بقصدية واقعية، جعلت الصور ملأى بالأصوات المهولة والعنيفة بصخبها وضجيجها، كانعكاس منطقي لحياة ما عاد فيها الإنسان قادرا على تلقي عنف تردداتها إلا بأن يكتم ملفوظاتها ويحولها إلى صوامت لعلها في سكونها ولا سماعيتها قادرة على أن تكون محسوسة لا بالقنوات الفيزيقية الخمس، بل مدركة بالحدس الذي سيسعفها في إدراك الوجود وما وراءه، وهذا الحدس هو الذي سيشتت الصوت ليتجاوز العالم المادي متلاشيا في فضاء سرمدي. وهذا الاشتغال هو بمثابة لعب معرفي لا لغوي أو كلامي فيه الصمت حاجة تقتضيها التأملات العميقة في بواطن الموجودات، بما يجعل من الصوت الفيزيقي صورة ميتافيزيقية. وهذا يعني أن الشاعر ما ولج عالم السماع إلا لأجل ان يكتشف العالم اللاسمعي بحثا عن صمت يتيح له التأمل كلعبة أليغورية تجعله يمارس رياضة روحية وكأنها يوغا شعرية، تسبح فيها الذات في عوالم لانهائية، وتتلاشى فيها الحواس ليستيقظ الحدس فينبري العقل مشاكسا ومتمردا، لعله يقتنص الحقيقة ويظفر بها فهي بغيته أولا وأخيرا.
ان الصمت عند أندي كروفت هو عماد القصيدة، وهو القالب الذي تصهر فيه الأحاسيس في بوتقة ميتاحسية، فتغدو الموجودات جميعها وكأنها صيرورة سحرية، تكشف عما وراءها، في سعي معرفي وتأمل كهنوتي من طراز خاص يتحول فيه الشعر من اطراد موسيقي إلى عبث ميتاموسيقي.
وهنا لا يعود الصراخ صخبا ولا الرصاص احتداما ولا الفزع صراخا وانتحابا، ولا الأغاني نشوة أو انتصارا، فلقد تحول الصراخ والرصاص والفزع من صور سمعية بقوالب هامدة ساكنة، إلى رؤى تتبصر بهوادة متأملة بتمعن وتمحيص ولا ينفك الإيقاع الوزني من أن تعاضدها بانسيابية تجعل التابلو عبارة عن قطعة مناجاة وغناء قداسي، وتتحول القصيدة من مجرد أصوات مسموعة إلى منظورات صورية، فتتلاشى الأصوات ليبزغ الضوء منسابا بومضات وانبثاثات بديلة عن فعل الترددات ومستغنية عن صنيعها. ويتحول التأوه ووقع أقدام الجيش ووساوس الشيطان المريعة إلى زخم وسكينة نفس وصفاء بال، وما من سبيل إلى ذلك كله إلا بالصمت الذي يظل الشاعر أندي كروفت متمسكا به كعمود فقري يشيد عليه نصوصه الثمانية، ليصنع تابلوا بصريا على أنقاض صوتية متسقة، لكنها هادرة، فتنبلج صورا صماء لكنها متاحة الولوج للحواس كلها. ولا عجب أن التوزيع الصوتي المتزن للكلمات سيوظف أيضا في خريطة التابلو، ويسهم في صنع متخيل صوري لا سماعي، فنقيق الضفادع وصوت الذبح وقرع الطبول، هي مسموعات تولِّد الصمت الذي هو رؤية العالم، وهذا ما تعززه القافية والفعلية ( سمعنا/ سمعوا/ استمعنا) فالصمت أداة شعرية تسهم في توصيل المعنى على المستوى الموضوعي، وبما يتيح للشكل أن يقدم رؤية العالم. وإذا عددنا القصيدة الحداثية فقدت يقينها بالوجود، فإن القصيدة ما بعد الحداثية استعادت هذه اليقين، متسامية إلى العدم ممدة بصرها إلى الأمام رافضة الرضوخ للوجود الذي ليس هو الملاذ.