صوتها – بغداد
يسعى أهالي الأنبار إلى ترسيخ معادلة يعتبرونها ثابتة في قواميسهم: ان امكانية عودة عائلات مقاتلي تنظيم داعش إلى مناطقهم مجددا تعني “عودة الدماء” إلى شوارع المحافظة والدخول في دوامة ثأر لا تنتهي.
داخل ديوانه الذي يستضيف فيه أبناء عشيرته في وسط مدينة الرمادي، كبرى مدن الأنبار، يؤكد عمر شيحان العلواني (35 عاما) الذي قاتل تنظيم داعش، أن الثأر لا يزول في منطقته.
وقد استعادت القوات العراقية الرمادي من ايدي تنظيم داعش عام 2016، وأعلن العراق في كانون الاول/ ديسمبر 2017 “الانتصار” على الجهاديين بعد استعادة كل المدن التي كان يسيطر عليها.
يقول العلواني “نحن في الأنبار عشائر، لو أن ابن عشيرة ما، تعرض أبوه أو أخوه للقتل، فإن عشيرته ستأخذ بثأره، وأي شخص يستوفي الدم، ولو كان ابن عم القاتل”.
ويضيف الشاب الذي يرتدي كوفية حمراء وبيضاء تتدلى حتى لحيته الشقراء “لا نريد العودة إلى المربع الأول، وإعادة الدواعش بيننا والدخول في دوامة الثارات. لا نريدهم هنا. ممنوع منعا باتا. إذا عادوا فإن الدماء لن توقفها لا عشائر ولا عمليات عسكرية”.
يذكر ان في تلك المحافظة، وفي العام 2006 تحديدا، برز تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق”. والسكان الذين كانوا يشعرون بالاضطهاد من قبل حكومة نوري المالكي الشيعية، فتحوا الأبواب لمقاتلي التنظيم على أساس أنهم رافعو لواء حماية السنة، على غرار ما فعلوه قبل عشرة أعوام حينها مع تنظيم القاعدة، لكن سرعان ما أصيبوا بخيبة أمل، بعد فوات الأوان، حين تمكن التنظيم من السيطرة على المحافظة تماما وفرض قوانينه المتشددة فيها.
بدأت معركة الأنبار في 30 كانون الأول/ ديسمبر 2013 بتمرد من العشائر السنية ضد الحكومة. وبعد شهر تقريبا، سقطت الفلوجة بيد الجهاديين، وفي أيار/ مايو 2015 بعد أكثر من عام من المعارك، كان دور الرمادي.
واستمر الوضع على حاله حتى 2016 إلى أن استعادت القوات العراقية مدعومة من فصائل الحشد الشعبي المدينتين، لكنها لم تفرض سيطرتها على كامل المحافظة إلا نهاية العام 2017.
“لن يهضمهم المجتمع”
دفع السكان ثمن خيارهم دما ودمارا، ويؤكدون اليوم إنهم لا يرغبون في تكرار الخطأ نفسه.
يؤكد المواطن الستيني صاحب الشاربين الأسودين العريضين خميس الدحل أن “الحكومة لن تفرض علينا من كان له يد في ما حصل بالأنبار. هؤلاء قتلوا رجالا ونساء وأطفالا”.
ويضيف فيما كان الحلاق يصفف شعره الذي غزاه الشيب “هؤلاء منبوذون والمجتمع يرفضهم”.
يوافقه نائب رئيس مجلس العشائر في الأنبار الشيخ محمد مخلف الرأي، قائلا “لدينا حموضة من عائلات الدواعش. لن نهضمهم ولن يهضمهم المجتمع”.
رغم ذلك، يبدو المقاتل العشائري السابق عمر خميس إبراهيم أكثر اعتدالا تجاه الموضوع.
يقول إبراهيم “نحن لسنا ضد العودة، لكن التوقيت خاطئ، ويراد منه إثارة الفتنة وعودة الدماء إلى شوارع الأنبار”.
ويرى الأربعيني أن الحل هو “أن يكون هؤلاء في مخيم تشرف عليه الحكومة العراقية، وأن يخضعوا لمحاضرات يومية ليفهموا معنى التعايش ومحاربة الفكر المتطرف”.
وتشير مصادر أمنية، إلى أن نحو عائلة 380 من عائلات الجهاديين، نساء وأطفال، قد فروا من منازلهم بعد هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية، وهم حاليا موزعون على مخيمين في المحافظة.
وبحسب منظمة “اللاجئين الدولية” التي تتخذ من واشنطن مقرا لها، فإن النساء يتعرضن “للإساءة والاستغلال الجنسي” من قبل الحراس.
حين سيطر تنظيم داعش على محافظة الأنبار، بدأ عناصر ما يسمى بـ”الحسبة”، أي الشرطة الدينية، بتنفيذ أوامر المحاكم الشرعية للتنظيم، ومعاقبة من يصفونهم بـ”المرتدين والمخالفين لتعاليم الخلافة”.
تنوعت العقوبات ذلك الوقت، بدءا من الجلد في ساحات عامة، أو الإعدام، على غرار ما حصل مع عشيرة البونمر في قضاء هيت، بعدما رفضها مبايعة التنظيم.
“خوف رغم تبدل الرياح”
ارتكب التنظيم فظائع، تبعتها عمليات إحراق وتدمير وتفجير منازل العشرات من المنتسبين للقوات الأمنية العراقية أو لعشائر موالية للحكومة.
ويشير رئيس برنامج الأمم المتحدة للإسكان في العراق عرفان علي، إلى أن 8289 منزلا في الرمادي و1244 في الفلوجة، دمرت أو أصيبت بأضرار بالغة.
ورغم أن إعادة الإعمار لم تنته في المحافظة، ليست كل البيوت المهدمة كانت بفعل العمليات العسكرية والمعارك بين القوات الأمنية وتنظيم داعش.
فالآن، بعدما انقلب مسار الامور، بدأت عمليات الثأر.
خلال جولة في أحياء الرمادي لا تزال بعض المنازل المدمرة على مرأى من الجميع، يقول السكان إنها كانت تعود لعائلات كان أبناؤها من مقاتلي تنظيم داعش.
ورغم أن من يفجر تلك البيوت معروف بالاسم والصفة، إلا أن الأهالي يفضلون التكتم على الأمر. فالسكان ما زالوا متخوفين من عودة التنظيم، حتى أن بعضهم متيقن من أنها “مسألة أيام وسيستعيدون السيطرة على قرى في الأطراف”.
ويثبت التنظيم أنه ما زال قادرا على زعزعة استقرار المحافظة، خصوصا بعد التفجير الانتحاري بدراجة نارية الذي استهدف حاجزا للشرطة في وسط الرمادي الخميس.
هذا الهاجس استوطن في نفوس البعض، حتى أن بعض العائلات لم تتجرأ حتى هذه اللحظة على إزالة شعار “وقف الدولة الإسلامية” عن جدران منازلها.