علي الشرع
قامت الحكومة مؤخراً بتطبيق مشروع الخصخصة الجزئية للكهرباء في قطاع التوزيع على مناطق محددة في بغداد لغرض تعميمه لاحقاً الى باقي مناطق البلاد من اجل حل المشكلة المزمنة لقطاع الكهرباء الذي أصبح عبئاً على النمو والتنمية الاقتصادية بدلاً من ان يكون قائداً لها. وتروّج الحكومة لمشروعها هذا بقوة شارحة فوائده للجميع، ولكنه لاقى رفضاً من بعض فئات المجتمع وفي بعض المحافظات، ولم يرفضه الجميع كما يبدو والا لرأينا تظاهرات مليونية ضد هذه الخصخصة.
وسبب اقدام الحكومة على هذه الخصخصة الجزئية هو ان الحكومة شخصت قطاع التوزيع كمعوق رئيس لحل مشكلة الكهرباء، ومنه تكون بداية الحل. فمع منع التجاوز على الشبكة، وترشيد الكهرباء، وجباية فعالة لأجور الكهرباء سوف تحل المشكلة تدريجياً. والسؤال هو ما مدى واقعية هذا التشخيص والحل؟
فقاعة ستنفجر!
اما ترشيد الكهرباء فلا شك انه- ان تحقق- سوف يقلل من ساعات قطع الكهرباء، ولكن هل هذا-أي الترشيد- هو صيغة لحل دائم ام مؤقت؟ اما فيما يتعلق بمنع التجاوز على الشبكة الكهربائية فهدفه مزدوج حيث انه –في المقام الأول- سيقود الى أيقاف الهدر في الطاقة الكهربائية، وهو عامل مهم في حرمان مستهلكين اخرين من الاستفادة منه. ومن جهة أخرى، تطبيقه سيقود الى تحصيل مبالغ نقدية ضائعة إزاء الكهرباء التي يستولي عليها بعض الافراد من خلال هذا التجاوز عل الشبكة الكهربائية. ولكن هل تطبيق الخصخصة في قطاع التوزيع سيحول دون وقوع هذا التجاوز؟
من البداية نقول ان تطبيق الخصخصة في قطاع التوزيع لن يسير بهذه الصورة المتفائلة تماماً. فاذا افترضنا ان مجموع ما يدفعه كل مستهلك من أجور كهرباء مقابل تزويده بالكهرباء لمدة 24 ساعة يساوي ما يدفعه للمولدة الاهلية كما تدعي وزارة الكهرباء، فأن هذا المستهلك لن يلتزم بالترشيد مطلقاُ. وإذا تنزلنا وقلنا انه سيذعن لهذا الترشيد حقاً، فأنه لن يُخفض من ساعات تشغيله لأجهزته الكهربائية الا قليلا. والمشكلة ستبرز اذا طُبق مشروع خصخصة التوزيع على عموم العراق، وكانت هناك فجوة فعلية بين المعروض من الطاقة الكهربائية والطلب عليها بحيث لا يمكن تزويد الكهرباء بشكل متزامن لجميع المستهلكين ولمدة 24 ساعة حتى مع الترشيد. عند ذاك سيتبين ان خصخصة قطاع التوزيع لم تكن الا فقاعة حان وقت انفجارها. وانفجارها سيخلق مشكلة كبيرة للحكومة التي ستسارع الى رفع تسعيرة الوحدة الواحدة من الكهرباء بحيث يضطر المستهلك الى تقليل استخدامها الى الحد الذي يتساوى فيه العرض والطلب على الكهرباء. ولكن هذا الحل يحتاج الى وقت لأقناع المستهلك به، وظهور أثره عملياً. وإذا لم تستطع الحكومة اقناع المستهلكين وفشلت في رفع سعر وحدة الكهرباء لكون الناس متذمرين من السعر الحالي لوحدة الكهرباء في المناطق التي طبقت فيها الخصخصة، فنتوقع ان يثور الناس على الشركات الخاصة التي تجبي أجور الكهرباء في قطاع التوزيع، وتفشل هذه التجربة. وهذا السيناريو للأزمة المحتملة التي قد تواجه خصخصة قطاع التوزيع لم يأت من فراغ، او انه مفرط في التشاؤم، بل هو تحليل ينطلق من واقع معاش ينبغي التنبيه له حتى تضع الحكومة حلول لأزمة كهذه من الان. فما يحدث الان من نجاح لهذه التجربة هو انها مطبقة جزئياً في بعض المناطق، فاذا نقص المعروض من التيار الكهربائي في عموم العراق لسبب او لأخر، فأن وزارة الكهرباء تستطيع ان تؤمّن الكهرباء لمدة 24 ساعة للداخلين تحت مظلة الخصخصة وبنفس السعر المعلن لكل وحدة من الطاقة الكهربائية، حتى وان أدى ذلك الى سحبها من حصة المستهلكين الاخرين من خلال زيادة القطع المبرمج عليهم.
اما التجاوز على الشبكة الكهربائية انما يحدث على الاغلب بسبب انقطاع التيار الكهربائي، ومنع التجاوز محكوم بالفشل في حالة تطبيق الخصخصة في المناطق الشعبية المكتظة بالسكان إذا كان سعر وحدة الكهرباء لا يتناسب مع دخولهم، او ان الترشيد سيقلل من ساعات تشغيل الأجهزة الكهربائية لدى بعضهم. ونحن لسنا ضد الترشيد او منع التجاوز، لكن التعويل عليهما كحلٍ حاسم هو مجرد خيال في رأس صاحب فكرة خصخصة قطاع التوزيع ليس الا.
اين وكيف تكون الخصخصة؟
والحل في الواقع هو ان تكون الخصخصة في قطاع التوليد اولاً، لا التوزيع؛ كون الحكومة تشكو في الوقت الحاضر من قلة الموارد المالية اللازمة لتوسعة قطاع التوليد بعد ان صُرفت مبالغ طائلة على قطاع لكهرباء من دون حل المشكلة كما هو معلوم.
وخصخصة قطاع التوليد يمكن تنفيذه في أحد امرين هما: اما ان تفتح المجال للقطاع الخاص ليستثمر في قطاع التوليد وفق تسعيرة تحددها الحكومة كون الكهرباء تقع ضمن الصناعات التي يحدث فيها احتكار طبيعي. او ان تقوم الحكومة بتحويل قطاع الكهرباء الى شركة مساهمة تُسجل في سوق الأوراق المالية ليطرح أسهمها من اجل الاكتتاب العام. ولكي تبقى دفة إدارة شركة الكهرباء بيد الحكومة فأنها ستحتفظ بحصة 51% لها وتطرح 49% منها للاكتتاب العام عليها من قبل الجمهور والشركات في الداخل والخارج. وبذلك تستطيع الحصول على المبالغ اللازمة لتمويل بناء وحدات توليد جديدة. وستنجح عملية الاكتتاب وجمع الأموال من الجمهور؛ لكون أسهم شركة مثل الكهرباء ستحقق ارباحاً مؤكدة، بل وتزداد في وقت الطلب المتزايد على الطاقة الكهربائية. وبعدها يمكن للحكومة ان تطبق خصخصة قطاع التوزيع بنجاح، ويا دار ما دخلك شر!
اما اذا كانت الحكومة خائفة من تبديد الأموال بعد جمعها من خلال الاكتتاب، او انها غير راغبة بالتخلي عن الأرباح المضمونة المتدفقة من تقديم خدمة الكهرباء فهذا يحتاج الى حديث مستقل.
* أستاذ في الاقتصاد