د. احمد عدنان الميالي
تعد منطقة عفرين –حاليا- مركز لسياسات القوى المتنافسة في الشرق الأوسط، وتعرضت مؤخرا إلى هجوم من قبل القوات التركية والذي سموه الأتراك (غصن الزيتون)، ويسكن عفرين إضافة إلى منبج وكوباني جنوب سوريا على الحدود مع تركيا، الأكراد الذين قاتلوا إلى جانب المتمردين المدعومين من الولايات المتحدة ضد الحكومة السورية. ويعكس هذا الهجوم بالنسبة إلى تركيا تفاقم مخاوفهم الأمنية الحدودية مع سوريا. ويعتقدون أن (وحدات حماية الشعب) المكونة من مقاتلين أكراد عبارة عن ميليشيات تنحاز إلى جانب حزب العمال الكُردستاني (PKK) المصنف إرهابياً في تركيا والولايات المتحدة الأمريكية.
وتواجه الولايات المتحدة تعقيدا في هذا الهجوم إذ يهاجم حلفائهم الأتراك حلفاؤهم الأكراد، الذين أثبتوا أنهم قوة قتالية قوية وبارعة ضد تنظيم داعش وبديل أفضل على الأرض من الجيش السوري وحلفائه. بالمقابل تقع تركيا بموقف أكثر تعقيدا مع حليفتها التقليدية الداعمة لعدوها الكُردي ولكن مستوى التحسس أكثر إرتفاعا من مكاسب الشراكة والسير وراء أغراض الحليف الأمريكي، بسبب عقود من هجمات حزب العمال الكُردستاني ضدها، إضافة إلى تطابق مصالح تركيا مع الهجوم على هذه المنطقة لأنها تسعى إلى إنشاء (منطقة آمنة) على الجانب السوري من الحدود لضمان منع الجماعات الكُردية من التوغل والإقتراب من الأراضي التركية.
أما موقف الحكومة السورية فلا يبدو رافضا بشكل قوي للهجوم ويتفق مع مصالحها رغم إعتراضها شديد اللهجة، ذلك لأن روسيا على ما يبدو وافقت على هذه العملية وهم يخططون ويترقبون لما يحدث في سوريا، فهذه العملية تتماشى مع مصالحهم فهم ببساطة يتفرجون ويرقبون بفرح حلفاء تركيا والولايات المتحدة وهما حلفاء الناتو (المنافس لروسيا)، يتحركان وفقا لأغراض ومصالح متضاربة. وتبحث الولايات المتحدة أن تقف موقف متوازن إزاء غصن الزيتون حاليا، فهي تقع في مساحة ضيقة للتحرك ما بين دعم شركائها المقاتلين الأكراد في سوريا وعدم التصادم مع حليفتها تركيا. فلا مجال للمناورة والأفق يضيق أمامها مع رغبة أنقرة التحرك نحو منبج ولا توجد خيارات متعددة يتعين على الولايات المتحدة تجربتها.
فهي من منظور تكتيكي تواجه تنظيم داعش وتشكل هزيمته أولوية، وفي نفس الوقت تعادي الجيش السوري وخيارات التصادم محتملة بعد حادثة خان شيخون وتسعى للحد من سيطرة بشار الأسد على سوريا. ورغم سيطرة واشنطن على الرقة وأراضي كان يهيمن عليها تنظيم داعش، لكن القتال لم ينتهِ بعد بالنسبة لها. ولهذا فهي ستحتاج إلى القوات الكُردية في شرق نهر الفرات. وهذا يحتاج إلى فتح قنوات إتصال لإقناع حلفائها الأتراك بهدوء أن يتمركزوا عند عفرين وإقتصار العملية عليها وعدم الدخول إلى منبج وتجنب توسيع نطاق العملية والمحافظة على أرواح المدنيين، فأي تصعيد تركي، سيساعد في دعم الأسد وروسيا ويقوض من حماس الأكراد للقتال ضد تنظيم داعش ويفقدون حلفائهم في الأراضي السورية. وستعمل أمريكا أيضاً على طمأنة شركائها الأكراد فيما يتعلق بدعم الولايات المتحدة على المدى الطويل.
وبشكل أكثر تحديداً تحقيق حلمهم بالحكم الذاتي تحت حمايتهم، ومن جانب آخر على واشنطن أن تقر وتعترف بالمخاوف والهواجس الأمنية لتركيا وهذا يحتاج إلى إجراء مشاورات لإقناع أنقرة لأن يعمل جيشها مع واشنطن جنبا إلى جنب لإزالة التعارض بين العمليات وتوحيد النوايا.
إذ يعد هدف الحفاظ على علاقة واشنطن بأنقرة أهم هدف إستراتيجي في المنطقة (إضافة إلى ضمان أمن الكيان الصهيوني). لكن بالمقابل الرابح الأكبر في التعارض والمواجهة الأمريكية التركية، هو الرئيس الروسي بوتين، الذي يأمل بشغف قرب الصدام والتقاطع بينهما، وما يترتب عليه من نتائج مضعفة لحلف الناتو. والحال بالفعل، هناك توترات وفجوات كبيرة في العلاقات الأمريكية التركية في الملف السوري من جهة وإقامة فتح الله غولن في بنسلفانيا الأمريكية من جهة أخرى، ومن ناحية ثالثة، فإن الولايات المتحدة وأعضاء دول الإتحاد الأوروبي لديهم تحفظات وإنتقادات حول موقف حقوق الإنسان في تركيا ضد الإعلام والقضاء والشخصيات العسكرية ولجم المعارضين الآخرين، لكن واشنطن لا تريد أن تخسر تركيا بنفس الوقت وهذه معضلة.
ومعضلة أخرى تواجه الإدارة الأمريكية بوجودها العسكري في سوريا تخدم الأجندات التركية والروسية، وهو إعلان وزير خارجية الولايات المتحدة ريكس تليرسون “إن القوات الأمريكية ستظل في سوريا حتى بعد إنتهاء الحرب ضد تنظيم داعش”، وهذا الإعلان للإدارة الأمريكية يلزمها بالإستمرار في زج قواتها في الصراع السوري ويضعها في مواجهة مباشرة مع قوات الجيش السوري وإيران وروسيا. بما يحرك الشعب والكونغرس الأمريكي ضد هذا التواجد كونه يخرق القوانين ذات الصلة بالحرب خارج حدود الولايات المتحدة، إذ ليس لدى إدارة الرئيس ترامب سلطة لإتخاذ قرار بشكل منفرد بإلزام القوات الأمريكية بإسقاط نظام الأسد بالقوة أو مواجهة روسيا أو إيران أو التصادم مع تركيا. وهو بحاجة إلى موافقة مسببة من الكونجرس، وأيضا موافقة المجتمع الدولي. فإقحام القوات الأمريكية في هذا الوضع من طرف واحد مناورة غير مضمونة العواقب وتفتقر للغطاء القانوني الداخلي والدولي ونتائجه سيئة بشكل واضح.
فحسب الدستور الأمريكي يستلزم إذا ما توجهت الإدارة للحرب أن لا تتغافل عن سلطة إعلانها هي للكونجرس، وليست للرئيس. ووفقاً لقرار سلطات الحرب لعام 1973، يتعين على الرئيس إبلاغ الكونجرس في غضون 48 ساعة بدخول القوات المسلحة في حرب عسكرية. ويجب على الرئيس بعد ذلك إنهاء إستخدام القوات المسلحة في غضون 60 يوماً، وفترة 30 يوماً إضافية للإنسحاب، أما إعلان الحرب فيقع تحت صلاحيات الكونجرس الذي يخول ويأذن بأستخدام القوة العسكرية ويمولها.
ما حصل في سوريا برره أوباما بشكل تلقائي إعتمادا على التصاريح المخولة باستخدام القوة العسكرية التي وافق عليها الكونغرس في عامي 2001 و2002، وواصل ترامب وفريقه العمل بهذا التبرير، لكن هذا التخويل قد يشرعن تقديم الأساس القانوني للعمليات ضد تنظيم داعش كونهم جماعة إرهابية على نطاق واسع تهدد مصالح الولايات المتحدة والمجتمع الدولي، لكن لا يمكن تبرير وشرعنة التصادم مع روسيا أو إيران أو تركيا أو سوريا بعد إنتهاء داعش، إذ نفاذية هذا التخويل القانوني لا تتعدى أو تمتد لبقاء القوات الأمريكية في سوريا والعراق، وهذا مؤشر يعد قيدا يخدم تركيا وسوريا وروسيا ويراهنون عليه، رغم أن ترامب مستعد لإنتهاك الدستور الأمريكي والإستهانة بالحدود الدستورية لصلاحياته وسلطاته وكذلك المجتمع الدولي، وما أعلنه تيلرسون يوحي بأنه على إستعداد لإنتهاكها.
لكن روسيا لن تتراجع عن مصالحها الحيوية في روسيا، ولا تركيا ستتخلى عن أمنها القومي بخصوص تهديدات حزب العمال الكُردستاني، وأمريكا لن تنسحب من سوريا، إعادة مشهد الحرب في سوريا بدأ يتشكل، وأفق الصراعات والإرادات سيتفاقم وما مقاطعة مؤتمر سوتشي في روسيا من قبل المعارضة السورية والأكراد المدعومين أمريكيا وسعوديا إلا بادرة لهذه الحرب من جديد.