د. أحمد بوغربي
تتقدم رواية “ذاكرة الجسد”، في شكل خطاب يكتبه الراوي “خالد” إلى البطلة “حياة”، يستعيد فيه أحداث حبه لها وهو جالس أمام نافذة بقسنطينة في وقت “الوطن كله ذاهب للصلاة” (ص12).
وقد تميز استرجاعه بعدة مقابلات صوّر عبرها معاناته بعد استقلال الجزائر، وخيبة آمال الثورة التي كانت معقودة قبل الاستقلال.
والمرسل “خالد”، مناضل سابق، فقد ذراعه اليسرى في الثورة ضد الاستعمار الفرنسي، وأخذ يستعيض عن اليد التي فقدها بالرسم باليد الأخرى، ليصبح أحد أكبر الرسامين الجزائريين بشهادة النقاد الفرنسيين، ودون اعتراف حقيقي في وطنه، وقد ظل هذا البتر علامة لا يمكن أن تنسى، لأنها هي الذاكرة.
أما المرسل إليها، وموضوع الخطاب “حياة”، فهي ابنة أحد الشهداء (سي الطاهر)، صديق الراوي وصاحبه في الكفاح المسلح ضد المستعمر.
ويتم تقديم “حياة” على طول صفحات الرواية (الخطاب)، ابتداء من يوم ولادتها إلى حين زواجها، وقد تميز حضورها بالنسبة للراوي “خالد” برمزية متعددة، فهي المرأة الحبيبة:
“كنا نفهم بعضنا بصمت متواطئ. كان حضورك يوقظ رجولتي، كان عطرك يستفزني ويستدرجني إلى الجنون، وعيناك كانت تجرداني من سلاحي حتى عندما تمطران حزنا” (ص120).
وهي المرأة الأم:
“وكنت تعرضين علي أمومتك أنت الفتاة التي كان يمكن أن تكون ابنتي والتي أصبحت دون أن تدري أمي” (ص18).
وهي أيضا المرأة الوطن: “أنت أكثر من امرأة، أنت وطن بأكمله” (ص381).
فـ “حياة” كما يظهر من خلال هذه الأمثلة، تحضر في الرواية موضوعا ورمزا: موضوع للحب والعاطفة، ورمز للأرض والوطن.
وتعتبر حالة انفصال “خالد” عن “حياة” (الموضوع والرمز)، الموضوع الأساسي في رواية “ذاكرة الجسد”، ذلك أن في تفاعل “خالد” مع حالة هذا الفقد – الواحد المزدوج – تجلي لنا الرواية رؤاها، ووجهات النظر التي تريد أن توصلها.
تطرح رواية “ذاكرة الجسد” إشكالية العلاقة بين الأنا والآخر، أو بين الشرق أو الغرب بالمفهوم المتداول. وهي إشكالية لم تكف الرواية العربية عن طرحها منذ “الحي اللاتيني” لسهيل إدريس و”عصفور من الشرق” لتوفيق حكيم و”موسم الهجرة إلى الشمال” للطيب صالح.
وفي مجمل هذه الروايات تبدو العلاقة مع الغرب علاقة إشكالية يتجاذبها الحب والكراهية، الإعجاب والنفور، الانبهار والحذر، لكن اللافت في الأمر أن موضوعة الجنس تشكل دائما مصدر التفوق والسطوة في مواجهة الآخر، فما يوحد هذه الروايات هو “إثبات فحولة شرق أمام أنوثة الغرب”.
وإذا كانت أحلام مستغانمي لا تخرج عن هذا المبدأ في العلاقة التي تقدمها بين “خالد” و”كاترين” – الموديل الفرنسية- حيث يعبر خالد عن هذا المبدأ بقوله:
“كان بيننا تواطؤ جسدي ما، يشع فينا تلك البهجة الثنائية، تلك السعادة السرية التي نمارسها دون قيود …بشرعية الجنون” (ص75).
إلا أن الفارق بينها وبين الروايات السابقة، يتمثل في معرفة كل من البطلين لحدود العلاقة ومداها دون أي انبهار أو مبالغة. فكل منهما يمتلك عالمه الخاص، ومفاهيمه وقناعاته، وهما يتقاطعان بالتالي عند حدود الرغبة الجنسية فقط، ومن ثم عدم السقوط في الرغبة في الامتلاك، والغيرة التي سقط فيها أبطال غيره من أمثال “مصطفى سعيد” في “موسم الهجرة إلى الشمال”، أو “إدريس” في رواية “البعيدون” لبهاء الدين الطود”، حيث أدت بالأول إلى قتل زوجته الانجليزية “جين”، والثاني إلى فقدان زوجته الإنجليزية أيضا، وابنته منها، ليعود كل منهما إلى بلده الأصلي.
يعود “سعيد” إلى السودان ليتزوج، وينجب ولدين، ثم ينتحر غرقا في نهر النيل، ويعود “إدريس” إلى المغرب (تطوان) فاقدا لكل شيء حتى عقله ورشده، في حين ظلت في المقابل علاقة “خالد” بـ “كاترين” علاقة جسدية صرفة يقول (خالد):
“تعودنا مع مرور الزمن ألا نزعج بعضنا بالأسئلة ولا بالتساؤلات، في البدء تأقلمت بصعوبة على هذا النمط العاطفي الذي لا مكان فيه للغيرة ولا للامتلاك، ثم وجدت فيه حسنات كثيرة، أهمها الحرية .. وعدم الالتزام بشيء تجاه أحد، فلا شيء كان يجمعني مع هذه المرأة في النهاية سوى شهواتنا المشتركة وحبنا المشترك للفن” (ص77).
وإذا كان نسق الثنائية الضدية ينظم النص في أعمال مثل “قنديل أم هاشم” أو “عصفور من الشرق” حيث تقوم على المفاضلة بين الشرق الروحي والغرب المادي”، فإننا نجد في رواية “ذاكرة الجسد” نسقا محورا لهذه الثنائية الضدية، وينشأ هذا التحوير من إدخال عنصر ثالث هو: “فكرة العلاقة الوهمية بين عالمنا الإسلامي وبين الحضارة الغربية الأوروبية… إن هذه العلاقة كما تبدو علاقة قائمة على وهم من جانبنا ومن جانبهم، والوهم يتعلق بمفهومنا عن أنفسنا أولا، ثم ما نضن في علاقتنا بهم، ثم نظرتهم إلينا أيضا من ناحية وهمية”، وهو ما يشير إليه “خالد” في قوله “لكاترين”:
“لقد كانت علاقتنا دائما ضحية سوء فهم وقصر نظر، فافترقنا كما التقينا منذ أكثر من قرن، دون أن نعرف بعضنا حقا، دون نحب بعضنا تماما … ولكن دائما بتلك الجاذبية نفسها” (ص403).
“لقد حكم علينا التاريخ ألا نشبع من بعضنا تماما… ولا نحب بعضنا تماما… لأكثر من سبب (ص 349).
بالإضافة إلى هذا، نجد فارقا آخر يتمثل في أنه إذا كانت أعمال روائية كثيرة كالتي سبق ذكرها، وضعت شخصياتها في التقابل والاختلاف بين ممتلكات الذات المعرفية والثقافية، وبين ممتلكات الغرب في هذا الباب، فإن رواية “ذاكرة الجسد” ليست مطبوعة بطابع الضياع الوجودي، ولا هي مطبوعة بنقد الذات المتولد عن اكتشاف الآخر، كما أنها ذات لا تستند إلى ترسيخ تقاليدها الاجتماعية، وتمجيد تراثها الثقافي كما الشأن عند “ادريس” بـ “البعيدون”.
هذا وبالإضافة إلى ما سبق، لم تشكل “كاترين” بالنسبة لـ “خالد” ذلك البعد العاطفي الذي كان من شأنه أن يجعلها بالنسبة إليه محور اهتماماته، فهو يقول:
“في الحقيقية … لقد كانت كاترين دائما تعيش على هامش حزني” (ص397).
ذلك أن كاترين، أوشكت أن تكون حبيبته، إلا أنه بعد علاقة طويلة معها ما إن يرى “حياة” الفتاة الجزائرية، ابنة صديقه وقائده في الكفاح ضد المستعمر حتى يحب هذه الأخيرة، ويجعلها في نفس الوقت موضوعا للحب والعاطفة، ورمزا للوطن والبلاد، يقول خالد في هذا الصدد:
“إنها امرأة كانت دائما على وشك أن تكون حبيبتي، وأنها هذه المرة – كذلك – لن تكونها” (ص76).
لهذا، لم يظل لـ “كاترين” من دور في حياة “خالد” سوى كونها وسيلة لتزجية الوقت في انتظار موعده مع “حياة” هو الذي يخاطب هذه الأخيرة بشأن كاترين:
“كنت أريد فقط أن أستعين بها لأنسى، كنت سعيدا أن أختصر معها يوما أو يومين من الإنتظار … انتظارك أنت”. (ص 75).
ولما انفصل عن “حياة” لم تعد “كاترين” تشكل بالنسبة إليه سوى أداة تعويض فاشلة، وهو ما لم يكن ليؤدي إلا إلى مزيد من الانفصام في شخصية “خالد” الذي يجد الحب في مكان، والشهوة في مكان آخر، ويتوزع بين امرأتين، إحداهما تمنحه جسدها، والأخرى تمنحه روحها، وينتهي في النهاية فاقدا للاثنتين معا.
إنها مأساة التمزق بين بلد نعيش فيه ولا ننتمي إليه لكننا لا نستطيع العيش فيه إلا على حساب حريتنا ومعتقداتنا ومفاهيمنا:
“أنت أمام جدلية عجيبة تعيش في بلد يحترم موهبتك ويرفض جراحك، وتنتمي لوطن يحترم جراحك ويرفضك أنت” (ص 176).
مع كل هذا وذاك، ولأن علاقة “خالد” بـ “كاترين” كانت خالية من الصراع والتضاد، ومن الامتلاك والغيرة، وحب السيطرة فقد أهداها كل لوحاته عندما قرر الرجوع إلى بلده الجزائر وهو يقول لها: “كاترين، لقد كانت قصتنا جميلة، أليس كذلك؟ كانت معقدة بعض الشيء، ولكنها جميلة برغم ذلك، لقد كنت المرأة التي كانت دائما على وشك أن تكون حبيبتي، وربما سينجح الفراق في تحقيق ما عجزت كل سنوات القرب هذه من تحقيقه” (ص401).
إن الجديد الذي تطرحه رواية “ذاكرة الجسد” في علاقة الأنا بالآخر هو خروجها عن نموذج الرواية العربية التي طرحت نفس الموضوع، فمنذ “عصفور من الشرق” “لتوفيق الحكيم” مرورا “بالحي اللاتيني” “ليوسف ادريس” ثم “موسم الهجرة إلى الشمال” “للطيب صالح” حيث يشكل فضاء الهناك فضاء التقدم والتعالي ويشكل فضاء الهنا فضاء الدونية التاريخية، والتنقل نحو فضاء الهناك معناه التنقل نحو فضاء الآخر المتقدم، فإن “أحلام مستغانمي” لم تلتفت إلى هذه المفاضلة، ولم تجعل من خالد ذلك البطل المنبهر بالغرب كما أبطال الروايات السابقة.