صوتها – بغداد
ينطوي كتاب “أثر السود في الحضارة الإسلامية” للباحث الدكتور رشيد الخيون على جهد بحثي واضح، تجلى في تتبع تاريخ السود وما عانوه بسبب اللون من استعباد وظلم في ظل نظام العبودية والرقّ الذي كان منتشرا في جميع الحضارات القديمة، حتى أخذ بالتقلص تدريجيا في العصر الحديث، في حين بقيت آثاره الاجتماعية مستمرة من خلال نظام التمييز على أساس اللون، وهو ما يتعارض مع الدور الذي لعبوه إلى جانب الآخرين في بناء الأوطان والحضارات.
تتجاوز أهمية هذا الكتاب العنوان الذي يحصر مجال البحث في الحضارة الإسلامية، وذلك من خلال تتبع تاريخ العبودية والرق في حضارات العالم القديم، وفي أوروبا وأميركا حتى تاريخ إلغاء هذا النظام في هذه البلدان، بينما ظل مستمرا حتى وقت قريب في مواطن السود التي سيطر عليها الاستعمار الغربي بالقوة، كما حدث في جنوب أفريقيا.
يتألف الكتاب من بابين اثنين ومقدمة يتناول فيها الباحث الدور الهام الذي لعبه السود في تاريخ الحضارة الإسلامية والذي شكل حافزا له لتناول تاريخهم والأدوار التي قاموا بها، لا سيما في الدعوة الإسلامية التي كانوا من أوائل من آمن بها ومن عانوا من أجل انتصارها، كما كان حال مؤذّن الرسول بلال الحبشي. ويتقصى الباحث هذا الدور الذي لعبوه في عصور الحضارة الإسلامية المختلفة على المستويات العسكرية والأدبية والدينية والفنية، إضافة إلى الدور الذي قام به الإسلام في الدعوة إلى عتق العبيد ومساواتهم مع المسلمين الآخرين.
ويتحدث الباحث في مقدمته أيضا عن عصر الرقيق الذي كان فيه السود يباعون في الأسواق حتى جاء الإسلام فتحوّل العبد عند إسلامه إلى واحد من جماعة المسلمين، كما تمت المؤاخاة بين المالكين والعبيد، لكن هذه المعادلة تغيرت فيما بعد بسبب الحاجة إلى العبيد في أعمال الزراعة وخدمة المنازل.
وتعدّ الفترة التي تلت صدر الإسلام هي العصر الذي شهد تراجعا في المكاسب التي حصل عليها السود إذ شهدت تغيرا في معاملتهم، ما دفع ببعض الكتاب والمؤرخين إلى التذكير بفضائلهم كصحابة وفقهاء وشعراء ومتصوفة، ويعد الجاحظ أول من قام بهذا الدور الذي كان أحد أعلامه المعروفين في الأدب العربي القديم.
يتوزع الباب الأول من الكتاب على أربعة فصول، والفصل الثاني على ستة فصول اعتمد فيها الباحث المنهج التاريخي في تناوله لتاريخ السود والأدوار التي قاموا بها في الحضارة الإسلامية، إضافة إلى تناول تاريخ الرق والعبودية منذ الحضارة البابلية وحتى ما بعد اكتشاف القارة الأميركية.
وقبل أن يتناول هذا الموضوع في الحضارة الإسلامية يتحدث الباحث عن محدودية المصادر الخاصة بطبقات العبيد والتي اختلف زمان تصنيفها، وأثر ذلك على تتبع مسار هذا التاريخ ودلالة المصطلح وأثره على حياتهم. لكنه ينطلق من كتاب الجاحظ “فخر السودان على البيضان”، والذي يعدّ مصدره الأول في تعريف مفهوم السود الذي يشمل الأمم الزنجية والحبشية والنوبية، حيث امتازوا بالفنون وبطيب الأفواه وحدّة الألسن، إضافة إلى صفة السخاء. ويأتي كتاب المرزبان مصدرا تاليا “السودان وفضلهم على البيضان” ثم كتاب ابن الجوزي “تنوير الغبش في فضل السودان والغبش”، ومن ثم كتاب السيوطي “رفع شأن الحبشان” وكتابه “أزاهر العروش في أخبار الحبوش”.
وكما هو واضح من عناوين هذه المؤلفات التي كان أصحابها من السود فإنها كانت تحاول استعادة القيمة المغيّبة للسود في الحضارة الإسلامية، خاصة وأن هذه المؤلفات ظهرت في العصر العباسي وما بعده، وهي تمثل دفاعا عن الدور الذي لعبوه في هذه الحضارة، إلى جانب بُناتها الآخرين. أما ما يخصّ المراجع الحديثة التي اعتمد عليها الباحث فهناك الكثير من هذه المراجع التي تناولت مفهوم السود، ويخصّ كتب الحديث والتراجم والأدب العامة التي يصنفها في أربعة أقسام، هي كتب الحديث النبوي والسير والتراجم والتاريخ العام وتاريخ الأدب والشعر إلى جانب دواوين الشعر.
في دراسته لوضع السود في مرحلة ما قبل الإسلام يشير الباحث بداية إلى أن الرق أو العبودية هو ظاهرة تاريخية بشرية وهي لم تقتصر على أصحاب البشرة السوداء، بل شملت أجناسا بشرية مختلفة بسبب الحروب والغزوات وظهور تجارة الرقيق وأسواقها، لأنها كانت قائمة على أساس اجتماعي، الأمر الذي جعل أسواق النخاسة تمتلئ بالرقيق الأبيض إلى جانب السود. لكن الباحث يجد أن التسميات تختلف هنا، فالأسود سمّي بالعبد بينما الأبيض سمّي بالمملوك غالبا، ومع مرور الزمن أصبح مصطلح العبد يطلق على الأسود حتى بعد أن يتم عتقه.
يعود الباحث بعد عرضه لتاريخ العبودية ومصطلحاته إلى استعراض وضع العبيد في قوانين حمورابي التي يلحظ أنها كانت تتساهل في زواج العبيد من النساء الحرائر، ثم ينتقل إلى دراسة وضع العبيد في الديانتين اليهودية والمسيحية، وكذلك وضعهم في الحضارة اليونانية والرومانية ليخلص إلى نتيجة مؤداها أن أوضاعهم في العالم القديم كانت واحدة مع اختلافات بسيطة.
كذلك يتحدث عن أوضاع العبيد في أوربا وأميركا التي قامت بحملات كبيرة لاصطيادهم بأعداد وفيرة ونقلهم بالقوة للعمل في الأراضي الزراعية الواسعة كعبيد في ظل ظروف قاسية من الاستعباد والمهانة، استدعت في مراحل لاحقة ظهور بداية الحركات المناهضة لأوضاع العبيد حتى تنامت واتسعت إلى أن استطاعت أن تنتزع قوانين تحريرهم وإلغاء نظام الرق والعبودية، بينما استمر هذا النظام في الولايات المتحدة الأميركية مئة عام.
يتميز الكتاب بشموليته من حيث ذكر أسماء السود في تاريخ الحضارة الإسلامية وأهم أعلامهم والأدوار التي قاموا بها في مختلف مراحل التاريخ الإسلامي، إضافة إلى الثورات التي قاموا بها متمردين على النظام الاجتماعي الذي أعاد استعبادهم مع ظهور الإقطاعات الزراعية الكبيرة وحاجة أصحابها إلى العمل فيها. يسمّي الباحث هذه الثورات بالحراك الاجتماعي، ويفرد لها حيزا مهما تحت عنوان “ثورات السود وتمردهم”، حيث تركز أغلبها في مدينة البصرة بسبب كثافة وجودهم فيها، بينما شهدت المدينة في الجزيرة العربية ثورة أخرى لهم.
ويركز الباحث على دراسة سير وتراجم أعلام السود المسلمين شعراء وأدباء وفقهاء ومتصوفة وأطباء وأهل فن. فمن خلال هذه التراجم والسير يحاول الوقوف على الأدوار المهمة التي لعبوها في تاريخ الحضارة الإسلامية، وقد اعتمد في تبويب هذه التراجم على المنهج التاريخي بدءا من عهد النبوة الأول وحتى العباسي مرورا بالعصر الأموي. إن هذه التراجم لا تقتصر على الرجال من السود بل هي تتجاوزها إلى النساء السوداوات اللواتي كان منهن الصحابيات والشاعرات والمربيات.
ونظرا للدور الهام الذي لعبه الشعراء السود في مختلف مراحل تاريخ الحضارة الإسلامية يفرد لهم حيّزا مهما يتتبع فيه أخبارهم وأدوارهم، والمكانة التي كانوا يحظون بها عند الخلفاء الأمويين والعباسيين على السواء. كما يبيّن الدور الذي لعبوه على صعيد الدفاع عن قضيتهم كسود في هذه الحضارة، من خلال استعادة الأدوار التي قاموا بها. كذلك لم يكن السود بعيدين عن التأثير في الأحداث السياسية التي شهدها العصر الإسلامي، ما يؤكد أهمية الأدوار التي لعبوها منذ بدايات الدعوة الإسلامية، وما تحمّلوه من أجل الدفاع عنها واستمرارها، ومن ثم في تطور الحياة الأدبية والفنية والدينية، كما حفظت لنا ذلك كتب الأدب والتراجم والتاريخ.