صوتها – بغداد
مدينة بملامح قندهاريّة دمرتها الحرب، موسيقى هندو شرقية مجهولة المصدر، أطفال سمر يركضون في الشارع بأسلحة (خشبيّة) في أيديهم، مآذن ومساجد في خلفية كل مشهد، تنظيم إرهابي إسلامي غير معروف، لغة إنكليزية ركيكة يتقنها فقط “الإرهابيون المسلمون”… كلّ ذلك وأكثر يمكن إيجاده في الإعلان الترويجي لفيلم هوليوودي جديد اسمه “بيروت”.
العنوان يشير إلى المدينة التي تدور فيها أحداث الفيلم عام 1982، لكن الدقائق الثلاث الترويجية للفيلم تكشف عن مكان لا يشبه بيروت حتى في ذلك العام، ليتبيّن لاحقاً أن التصوير قد تمّ في المغرب. ومن ظهر من الممثلين بدا أنه لا يمت بلهجته ولا سياقات شخصيته إلى المدينة بصلة، وهؤلاء تبيّن أنهم غير لبنانيين بدورهم.
لكن غربة صناع الفيلم عن السياق المكاني لمسار أحداثه، ليست السبب الوحيد الذي جعل الأخير عرضة لانتقادات شديدة. عوامل عديدة أخرى تستند في شق منها على الفيلم نفسه وفي شقها الآخر على تراكمات التاريخ الطويل لهوليوود في تصوير الشخصية العربيّة، أوصلت البعض إلى إطلاق عريضة إلكترونية تدعو إلى “الحظر الكامل للفيلم”.
أكد موقعو العريضة على ضرورة “وضع نهاية لتسخيف الشرق الأوسط”، لأن “هوليوود تعيد كتابة التاريخ وتستغل ماضي لبنان من دون أي رؤية لبنانية حقيقية. هذا الفيلم يشكل تهديداً للتراث اللبناني والثقافة”.
في وقت أعاد الفيلم إلى دائرة النقاش تاريخاً طويلاً من التنميط الهوليوودي للشخصية العربية والأحداث التي تعيشها. فقد طغت على السردية الهوليوودية، عبر كمّ لا يُحصى من الأفلام والمشاهد، صورة العربي الدموي المتوحش بموازاة فكرة الأمريكي المخلّص.
يبدأ التريلر من داخل قاعة تبدو أنها لصف جامعي أو ما شابه، حيث يتحدث المحاضر عن قدرته على لعب دور الوسيط حتى منذ ما قبل ولادته، “لأنه كان الطفل الوحيد لشخصين كانا يكرهان بعض لدرجة كافية كي يعيشا معاً”.
في هذه الأثناء، يهزّ انفجار ضخم القاعة، لنكتشف لاحقاً أن المحاضر هو مايسون سكايلز (الممثل جون هام) بشخصيّة دبلوماسي أميركي كان قد فرّ من لبنان في العام 1972، بعد قتل زوجته على يد “جماعة إرهابيّة”.
في العام 1982، تطلب منه الاستخبارات الأميركية العودة إلى هناك، لتحرير زميل له اختطفته جماعة إرهابية (يُفترض أنها من قتلت زوجته كذلك)، وتطلق على نفسها اسم “ميليشيا التحرير الإسلامي”.
لقد طلبت “الميليشيا” سكايلز بالاسم لعرض مطالبها، وحين سأل الأخير عما تطلبه الاستخبارات منه، أتاه الجواب “لديك خبرة طويلة بالتفاوض، فاوض”.
نكتشف لاحقا أن مسؤولاً في تلك الميليشيا، وفي حديثه مع سكايلز، يوافق على الإفراج عن الرهينة الأمريكي في حال عودة شقيقه رفيد أبو رجّال. بعد ذلك، يأتي صوت من الاستخبارات يقول إن رجّال مسؤول عن عملية ميونخ الأولمبية “احتجاز رهائن إسرائيليين أثناء دورة الأولمبياد الصيفية المقامة في ميونخ في العام 1972” وعملية مدريد…
لاحقاً نكتشف أن طلبات الشقيق تعجيزية، إذ منح الأميركيين الذين يسعون للحل ست ساعات فقط لعودة الشقيق، لنسمع مرافقة سكايلز (روزاموند بايك) التي تعمل لصالح “السي آي إيه” ومهمتها الحرص على حياة المكلف بالمهمة تقول “أبو رجّال يختبئ، حتى أن جماعته لا يعرفون مكانه”.
ثم تظهر “النخوة” الأميركية المعتادة، فيقول أحدهم “واضح أن الوحوش يسيطرون على لبنان حالياً، لا بدّ من القيام بشيء ما”، بينما يحضر الجانب الإسرائيلي في مواقع مختلفة كمخلّص لبيروت من شعبها.
في دقائقه الثلاث المحدودة، بقي التريلر الجديد لـ”بيروت” وفياً للسياق الهوليوودي المعتاد، فقدم جرعة مكثفة من الأشرار العرب كجماعة دموية عبثية لا تتقن لغة الحوار، والأخيار الأميركيين ضحايا الفوضى البيروتية التي لا خلاص منها إلا بتدخل أميركي.
تظهر في آخر الإعلان الترويجي عبارة “2000 عام من الانتقام والثأر والجريمة… أهلاً بكم في بيروت”، في مقابل فكرة تتكرر مراراً مفادها أن “كل ما يريده الأميركي… هو إنقاذ حياة”.
هكذا يقدّم الفيلم، الذي سيُطرح في الأسواق في الثالث عشر من نيسان تزامناً مع ذكرى انطلاق الحرب الأهلية في لبنان، سرديّة غربية مغلوطة عن المدينة التي كانت تعيش أجواء مشتعلة بداية الثمانينيات.
يشير إيلي فارس في تدوينة له إلى أن بيروت 1982 التي يعرفها أهله والكثير مثلهم جيداً لا تشبه بيروت الفيلم، مضيفاً أن أميركا تحشر نفسها في الحرب الأهلية اللبنانية في سردية معينة في حين أن تلك الحرب لا علاقة لها بها بأي شكل.
ويقول “عزيزتي هوليوود، أفهم أن لديك حاجة متزايدة إلى “الاستيقاظ” في هذه الأيام، ولكن “اليقظة” تعني كذلك إدراك أن بلدان ومدن الآخرين ليست ملكية مجانية بالنسبة لك لمواءمتها مع أفلامك التي هدفها الوحيد هو مواصلة ما تعتقدين أنه صحيح عن تلك الأماكن وهؤلاء الناس، وكذلك ملء جيوبك بالمال على حسابهم”.
على الرغم من الدور الجمالي والثقافي الذي أسهمت به السينما الهوليوودية في واقعنا المعاصر، لكنها مارست دوراً سلطوياً خفياً ساهم في تشكيل وعي مواز بطريقة تراكمية.
تحول هذا “الوعي” مع الوقت إلى نسق معرفي خاص بالإنسان جعل الواقع الافتراضي أكثر حضوراً من الواقع الفعلي، فخضعت لهيمنته شرائح واسعة منها العرب الذين صورتهم هوليوود بشكل أساسي كشهوانيين وأشرار، حتى كادوا يصدقون تلك الصورة عن أنفسهم لا بل يتماهون معها.