“أجمل بنات الموت”.. بين الموت والحياة

عصمت شاهين دوسكي
لم يعد الموت ظاهرة غريبة ومؤثرة ونادرة كالسابق، في السبعينيات كنا أطفالا نلعب بين الأزقة الضيقة في مدينة دهوك التي كانت مدينة صغيرة جدا، بين ظلال بيوتها الطينية وشوارعها القليلة وبساطة أهلها ونقائهم وفطرتهم النقية مع كثرة بساتينها وأنهارها وينابيعها وصفاء فضائها ونقاء هوائها، تحفة فنية خلقها الله على الأرض، عندما كنا نسمع عن موت شخص في الأغلب كبير السن أو بمرض عضال، نتألم ونفكر ونتأثر ونحلم بالميت من كثر التفكير، فالموت لم يكن يزور المدينة الصغيرة إلا نادرا فلا نفاق وخداع، ولا كذب وجدل، ولا اغتصاب أو سرقة، ولا اغتيال وإقصاء، ولا خراب ودمار، فيحتار الموت لمن يختار إلا ما شاء الله.
من انتهى عمره وذبلت ورقته، عكس ما يحدث الآن على أرض الواقع، ويصنف أهل التصوف الموت لأربعة أصناف: الموت الأحمر وهو مخالفة النفس، والموت الأبيض وهو الجوع لأنه ينير الأعماق ويبيض وجه القلب، والموت الأخضر لقناعة صاحبه في العيش، والموت الأسود لاحتمال الأذى من الناس والصبر على أحوالهم ومعاشرتهم.
هذا الاستهلال الموجز داهمني وأنا أقرأ قصيدة “كجا مرني، بنت الموت” للشاعر ديار أرادنى ضمن مجموعته الشعرية باللغة الكردية “من يمسح الخوف من عيني؟” بخيال خلاق وعالم ما وراء الطبيعة ينادي بنت الموت وبصورة تعبيرية خيالية ينقل أفكاره وتصوراته ويجسد معانيه بأسلوب فلسفي عميق.
كل من قرأ قصيدة “بنت الموت” قال عنها سوداوية كئيبة موحشة مظلمة غير مفهومة بوعي أو دون وعي، لكني اختلف معهم في الرأي بعد أن قرأتها عدة مرات، رأيت ما وراء الكلمات والهواجس والخوف والتساؤل، ما وراء التصور الذهني والحسي، فالشاعر رأى وعاش الأزمات منذ الثمانينيات ولحد الآن، والرؤية البصرية للشاعر ليست كالرؤية العادية للبشر خاصة أصبح الموت صورة معاشة مكررة واللافتات والإعلانات عن الموت في الشوارع معلقة على الجدران وفي القنوات الفضائية السمعية والبصرية ومن خلال الانترنت وغيرها من وسائل التواصل والنظر إلى الموت وصور الموت تعكس حال المجتمع السياسي والاجتماعي والإداري والثقافي مثلما قوة الاقتصاد والدفاع والتقدم والتطور تعكس الفرح والسرور، وإن كانت هناك تناقضات بينهم كرؤية ذاتية.
“بنت الموت
تأخذني إلى المقبرة كل ليلة
تعلمني أسماء الأموات
تعرفني على جميع الأموات
تعلمني لغة الأموات
شبعت من الناس
الأموات يقولون للموت، مت
الأموات خالدون، الحياة موت”.
في رؤيتي الشعرية وتجربتي الأدبية الخاصة في النقد أعتبر كل قصيدة تبث طاقة ما، والطاقة بصورة عامة أما إيجابية أو سلبية، أما في القصيدة طاقة إيجابية إلا ما ندر وإن سألني القارئ العزيز كيف؟ القصيدة في طياتها ومضمونها تحمل رسالة روحية حسية فكرية توقظ ما يختلج في أعماق الإنسان، تبحر في عوالم جميلة تمس شغاف القلب وتصور الواقع الإنساني لفكر وتجربة وخبرة الشاعر، هذه الطاقات الإيجابية تحرك الإدراك والحس والذهن والضمير الإنساني وتشعره بقيمة وجوده في الحياة فليست هناك قصيدة راقية تحمل طاقة سلبية وإن وجدت فالقارئ لا يلتفت إليها لأنها لا تبث سوى طاقتها الضعيفة الباهتة.
الشاعر ديار أرادني إختار الطاقة السوداوية الكئيبة الموحشة بنظر ورؤية الآخرين مخرجا للحياة فكانت بنت الموت نافذة لهذه الطاقة، فبنت الموت من والدها عزرائيل لم يذكره الشاعر علانية المكلف بأخذ الأرواح، تتجلى صورة الحياة والموت “تأخذني إلى المقبرة كل ليلة” وهي تلبي نداءه ورغبته “أريد بنت الموت” الوصول إلى جوهر التعبير والرؤية يعني رؤية المعاناة النفسية والفكرية والحسية بعمق راقٍ، فالصراع بين الخلود والموت توحي بالحركة والحياة.
بنت الموت تلقنه أسماء الأموات ولغة الموت وهو مطمئن لأنه “شبعت من الناس” فالأموات عندهم كلمة واحدة “الموت” فهم خالدون بعالمهم أما لناس في الحياة ليسوا خالدون لأن نهايتهم موت، نلاحظ محاورة فكرية واعية بين روح الشاعر وبين الأموات في المقبرة “قلت لهم من يشتري حياتي؟” وهي صورة انعكاس لعدم الرضا بالحياة المزيفة المليئة بالكذب والنفاق والفساد والقتل “من يعشق الحياة؟” يطلق عنان تفكيره ليعبر عن عدم عشقه للحياة التي كثر فيها الاغتصاب وسلب حقوق الناس والنفي والإقصاء والخراب والدمار، تبقى تساؤلاته مدرة ليؤثر “من يتمنى القبلات والسير لمنظر الغروب؟” كأنه يقول لهم لا معنى لحياتي بين هذه المناظر لأنها امتلأت بالظلام والجوع والحرمان ولا مبالاة “هل هناك من لم يصل لحبيبته؟”.
هذه التساؤلات رفض لكل المعاناة والمآسي الإنسانية التي توسعت وطغت في الحياة بحيث يحتاج إلى حياة أخرى إلى تغيير ما من خلال بنت الموت فهو يقاضي الأموات بعمره “عمري كله مقابل موت صغير”، فالعمر الذي يمر بالذل والانكسار والضعف والقيود والحرمان داخل صور خداعة كاذبة معلنة بلا خدش ولا حياء “حرية الإنسان، حقوق الإنسان، الديمقراطية”، مجرد إعلانات وراؤها غايات تدميرية ومصالح ذاتية ومناصب خشبية وتخمة مالية كرشيه وقصور في دول أوروبية واستثمارات في بلاد غربية يرفضها لأنها لا تجسد معاني الإنسانية الكريمة على الأرض.
“فرحبوا بي
قلت لهم من يشتري حياتي؟
مرة أخرى، من يعشق الحياة؟
من يتمنى القبلات والسير لمنظر الغروب؟
هل هناك من لم يصل لحبيبته؟
ليخرج يده من القبر ويقول أنا
عمري كله مقابل موت صغير”.
من وجهة نظر الواثق من نفسه، المنتصر يستعين الشاعر بوالد البنت عزرائيل الذي لم يذكره ظاهريا تقديرا واحتراما لمهابته ودوره المهم والصعب في نزع أرواح الناس “ضعي يدي بيد أبيك” هذه الاستعانة وسيلة توظيف فلسفي للوصول لغاية يجسد هوية الموت الفعلية “نسيبك المستقبلي يريد موتا” يعزز هذا المسعى للسردية ويمد الحوار الدرامي بالتشكيك والإيمان بالدور الأبوي للموت متسائلا “أليس لديك موت زيادة؟” ليتخذ الحوار منحى آخر مكملا يكرس مضمون معاصر بالمعطى الفكري والإيحائي الذي يبحث بديلا عن الحياة “أليس هناك أموات نادمين على الموت؟”. وكأن النادم يعود للحياة الفانية الذي لا يمكن أن يتفادى مصيره البائس المحتوم.
تتحرك أوصال الحوار الروحي وترتبط وتتصل بطرف ديني غائر وبنيوي بتوظيف جميل أزلي أمنا “حواء” بتوسيع الدراما الحوارية للوصول إلى الفعل المؤثر “سرقوا” عبر هذا الوصف “قل للحواء – الناس سرقوا الألوان كلها” لم يكن هناك رد من والد بنت الموت كون الصورة الشعرية نفسها تستعين بذاكرة توضيحية لتكشف مكنون السرد الضمني غير المعلن.
“بنت الموت
ضعي يدي بيد أبيك
قولي له:
نسيبك المستقبلي يريد موتا
أليس لديك موت زيادة؟
أليس هناك أموات نادمين على الموت؟
قل للحواء:
هذه الدنيا كلها أشجار تفاح
التفاح بلا ألوان
الناس سرقوا الألوان كلها”.
بعد توالي الصور الشعرية والرموز والدلالات مرة بسلة عسل والنحلة والأطفال والعصافير في شقوق الجدران تبحث عن الطيران والخفاش يعلم العصافير الطيران ظهرا ودعوت بنت الموت للخروج من الذات والآلام والجراحات والهموم كونها قدرا، ورحيل الأحلام وهروبها وعدم تحقيقها قدر، وكل ما يحدث لنا أقدار مكتوبة على جبيننا فهل يتحمل جبين الإنسان كل هذه الصور والأحداث والصراعات والمعاناة والآلام؟ عدمية المكان والزمان يوظف فعل الرموز لتأخذ مكانا وزمانا أوسع بلا حدود وهو منحى فلسفي بين ثنائية الموت والحياة، بين أن يكون أو لا يكون، الخلود والموت، وما الفساد الإنساني إلا من المخلفات الرئيسية الجهل والحروب، فالأرض نفس الأرض لكن المأساة صارت حيوانا شفافا يتسلق جسد الإنسان ليغور ويتغلغل في روحه وفكره وإحساسه ليدخل جنان وحلم الإنسان ويأخذ من شتلاتها الخضراء اليانعة، فأصل الإنسان أن لا يتحول إلى درجات سفلى هاوية بل أن يرتقي بنفسه وأن لا يصل إلى درجة الانحطاط الخلقي بحيث يبيع نفسه ووطنه، فالحيوانات لا تفعل هذا الأمر المؤلم فكيف يفعلها الإنسان؟
قصيدة “بنت الموت” للشاعر ديار ارادني تنتمي إلى الدراما الفكرية الفلسفية في ظل جوهر ثنائية الموت والحياة، العطاء والفناء، في سرد تخيلي حواري مع أجمل بنات الموت. وأمر طبيعي أن تبث القصيدة طاقة حزينة كئيبة لوجود الأحداث المأساوية لا لشيء سوى ليجد من خلالها منفذا روحيا وفكريا وحسيا للخير والسلام.

شاهد أيضاً

ناسا تخصص 3 مليون دولار لمن يحل معضلة “القمامة على القمر”

تُقدم وكالة ناسا الأميركية جوائز نقدية بقيمة 3 ملايين دولار لمن يُساعد في حل مُشكلة …

error: Content is protected !!