محسن الذهبي
في المعرض الثامن للتشكيلي العراقي مازن أحمد، والذي أقيم مؤخرا في قاعة “حوار” بالعاصمة بغداد، تحت عنوان “بوصلة” يستمر الفنان العراقي المغترب في استلهام التراث الرافديني، علاوة على جمعه بين اللوحة والمنحوتة، تواصلا مع نهجه القديم الذي اتبعه في معارضه السابقة في أماكن متعددة من مدن العالم.
واستلهام التراث الرافديني الذي اتبعه أحمد معتمدا على المزج الفني الواعي والمبتكر بين التصويرية والنحتية في العمل الواحد، وتوظيف المساحات الهندسية الملوّنة توظيفا مثيرا للعين، رغم نزعته التبسيطية للشكل الفني والغنائية في اللون والميتافيزيقية في الفكر على خلفية روح فطرية تبحث بمشخصاتها الرمزية المعبرة عن حصار الإنسان المعاصر وضياعه على أرضية من التجريد الهندسي والموتيفات التراثية في خلق منحوتات ذات أشكال، جميعها بالرغم ممّا سبق تقترب من روح التراث باستياء حداثوي، ممّا دفعه إلى البحث عن مواد خاصة به ابتكرها ذاتيا ومن تجاربه النحتية خاصة.
وقد تبدو هذه الموتيفات بلا لون أو يغلب عليها اللون الأسود، لأنها صنعت من مواد تحمل ذات اللون لتقترب من روح التراث، وهو اقتراب يبدو مقصودا من الفنان لتبسيط رؤى البحث.
ومازن أحمد يسعى بجد لامتلاك تقنيات جديدة تحتفي بإبهار الفنون الشرقية وألوانها ذات الروح المتوثبة واستيعابها لتلك البدائية المتفرّدة بالتعبيرية في الفكر الإنساني بإظهار رؤى فنية حديثة، فهو يحتفي بالأشكال التجريدية الهندسية ويغلفها بحسّ تزيني جمالي، مأخوذا بطيف الألوان الراسخة في الذاكرة الشرقية ومعبرا عن غنائية لونية تغري العين.
وأعمال أحمد تقرأ وكأنها نص تعويذي أو قدسي، فمحاولات الفنان الإبداعية يملؤها الطموح بخلق لوحة عراقية رافدينية المرجع تسعى لاستيعاب الموروث ومناهج المدارس العالمية الحديثة في ذات الوقت، وخلق لوحة تحاكي طابع التراث بتوجهاتها وأساليبها مع أنها تنحو نحو التبسيط الشكلي الذي لا يخلو من روح الابتكار والمعاصرة، إذ يخلق الفنان توفيقية جميلة بين العمل التزويقي والتعبيرية باحثا بجد عن خصوصية تجديدية بانفتاحه على المنجز والاتجاهات التشكيلية العالمية والتأثر بها، فأعماله توحي بتلك الثقة بالنفس والوعي بعالمية الثقافة والفنون.
ومع ذلك، يبقى مازن أحمد يتأرجح بين قطبين جماليين يحاول أن يوائم بينهما: هما إيقاظ مخزون التراث الرافديني وخلق لوحة معاصرة، فهو ينطلق في مسعى خصوصي من مبدأ التفكير في التراث-الحي، وتراث المرجع التاريخي- تراث الفرد- فالشيء الذي يبحث عنه الفنان هو خلق أرضية لمرجع تاريخي بالنسبة إليه، وهكذا نرى انفجار الأشكال الأكاديمية من الداخل كي يولّد فنا آخر ذا خصوصية شخصية بإبداع مازن أحمد نفسه وتميز لوحاته وأسلوبه الفني.
ومازن هنا يبحث عن رومانسية حسية ومشهدية روحية، حيث الأشكال لديه توقظ إحساس التفرّد وتنقل إحساس الإنسان المعاصر، وتبرز اتكاء الفنان على التاريخ كمعين تاريخي وفني، كما أن معالجة السطوح الثابتة للوحات من طريق العجائن، وتقنيات البناء المضاعف وإنشاء العمل، وكذلك استعمال تقنية الكولاج على بعض السطوح الثابتة وغير الثابتة، أتاحا لها تعدّدا في خيارات تنفيذ الفكرة التي يعمل عليها، فالكتلة تتحرّك عبر ترادف اللوحات بأحجامها المختلفة، حراك بخطوات ثابتة تتمحور عبر خلق عالم من الكتلة المعبّرة والسطوح ذات التكتلات اللونية البارزة التي تشي بعمق سطح اللوحة.
ويبقى الفنان مازن أحمد محافظا على المناخ الملحمي التجريدي، مسيطرا على أجواء لوحته ومنحوتاته، حيث تأخذ الرموز والحروف والموتيف الشخصي للإنسان مركز الاهتمام، إذ تنجذب آلية كل الكتل والأحجام المحيطة به، فهو يحاول خلق تداعيات لصدى صوت تاريخي مسترجع يوقظ صداه مسترجع الصوت في الذاكرة المحلية، إذ أن المعنى الرمزي الذي تختزنه تلك الرموز يخلق توازنا ما بين مجرى الذاكرة العينية للفرد ومجرى الذاكرة الجمعية للمجتمع.
في النهاية، مازن أحمد يحاول من خلال فنه أن يستبدل حقيقة نظرة اكتشاف قوى الإبداع التي يخفيها الماضي، وثبات ما هو شعوري مستور في عمق الموروث المهمل أو المنسي وتجديده على مستوى اللاشعور بالمجابهة مع ثقافة الآخر، فلوحاته تعطي فرصة للتفكير وليس للتلقي السلبي والاستهلاكي للموروث، هي محاولة للخروج عن الشكل المتعارف عليه للوحة المسنديّة وابتكار أشكال توازي القيمة الفنية لذلك الموروث عبر اللوحة غير التقليدية متعدّدة الأجزاء، إنها صرخة الحاضر في استحضار الماضي بشكل مغاير.
شاهد أيضاً
افتتاح المعرض السنوي للنحت العراقي 2024
افتتح اليوم السبت ١٤ من كانون الاول ٢٠٢٤ على قاعة جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين المعرض …