الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ.
ـ قرآن كريم
“فكأنّ بعضي مات بموتها، وكأن بعضها ما يزال حيّاً في حياتي. فكلانا ميت، وكلانا حيّ.”
ـ ميخائيل نعيمة
حكى رواد المقهى الذي يقع على ناصية الشارع الكبير المحاذي للنهر أنهم رأوا قسمت حين قدمت في تلك الليلة ماشية على عجالة وبصحبتها طفلة في الثانية من عمرها وطفل رضيع. قالوا إنهم تبينوا خيالها حين وقفت عند النهر ثم خلعت نعليها ومن ثم عباءتها لتكشف عن بطنها الحامل المنفوخة خلف “دشداشتها البازة”، ما جعل بعض زبائن المقهى ينفضون عنهم آثار السهر لينتبهوا إليها. غير أنها لم تمهلهم كثيراً ليستفهموا، فبادرت ببساطة وسرعة الى إلقاء الرضيع في النهر ثم قبل أن يفيق السهارى من المفاجاة أو يفكر أحد منهم في أن يهرع نحوها كانت قد ألقت بالطفلة ثم بنفسها.
***
بعد يومين من الحادثة أُعلن في بغداد خبر وفاة الملكة عالية، لكن أحداً من أهل الدار أو “النِزل” المستأجرين فيها، لم يكن ليسمع به أو يهتم وهم مشغولون جميعاً في العزاء الذي استمر ثلاثة أيام طويلة حيث لم يخل البيت الكبير من المعزيات اللواتي توافدن من جميع أنحاء الدهانة وباب الشيخ وشارع الملك غازي. كل من سمع بالفاجعة جاء إما مواسياً او ليروي فضوله برؤية الأب والأم المثكولين بابنتهما والأحفاد. الجميع لديهم أسئلة فضولية يطرحونها بطريقة إطمئنانية وكانت الأجوبة والتعقيبات دائما ما تأتي من “قَيــَم” و”شازي” بكلمات قليلة ومنكسرة. أما “فِرصت” أخت قسمت الأصغر والتي أجّل زفافها للمرة الثانية بسبب وفاة عمها قبل شهور عدة ثم تلقائياً مع انتحار أختها، فكانت تنظر الى المعزيات الفضوليات بنظرات فارغة وقد التزمت الصمت. تبدو هادئة مكابرة وهي لم تجد من تبكي أمامه بحرية ولم يحتضنها أو يواسها أحد، الكل كان مشغولاً ومتطلباً أيام العزاء المزدحمة ويبادلونها نظرات قلقة لا تعين على الرحمة. وكانت هي تمقت العزاء وتلهث من أجل وقتٍ يمكنها فيه أن تخلو بنفسها، بالإضافة الى كونها تكره عادات النسوة المعزيات وإن كانت تشاركهن مضطرة في بعض المظاهر بينما نواح أمها يصلها تارة قوياً وهادراً وأخرى خفيضاً وأقرب الى الهمهمة فيزيد من حزنها الذي تكتمه بمشقة. كانت تمقت بشدة إجتماعهن على الغداء الذي يقام ثواباً على روح الميت وقد بدين مثل باذنجانات مرصوصة في صندوق بثيابهن السوداء المتشابهة وعصابات رؤوسهن وقد إحمرت الخدود من آثار الحزن المزخرف وحمى الإنفعال وإنتفخت العيون وإحمرت من شدة البكاء الفارغ من الدموع. هذا الإنقلاب المفاجيء من النواح الى الطعام والثرثرة كان يضايقها بشدة ولا تكاد تحتمل إنها المكلومة برحيل إختها، عليها أن تخدم في مجلس نساءٍ لا يخلو من الضحك والنميمة والمعايرة.
على ماذا كن يبكين أو يتظاهرن بالبكاء؟ وهل رحيل أختها قسمت يثير فيهن كل هذا البكاء حقاً؟ ألم يكن جمال قسمت مبعث غيرة وحسد الكثيرات من الحاضرات؟ ألم تكن طيبة قلبها ونظراتها الزائغة وتصرفاتها الطفولية مبعث سخريتهن؟
ثم إنها تشعر برعب هائل وما من أحد ليطمئنها. والدها مشغول في عزاء الرجال بعد أن دفن أختها التي لفظها النهر في اليوم التالي للواقعة، وهو ما يزال مهموماً بالبحث عن جثتي الطفلين اللتين لن تظهرا قط. وأمها مرمية كالمجنونة في واحدة من غرف الدار العلوية مذ سمعت بالخبر. أما هي فعليها غسل الصحون والمعاونة في الطبخ والتنظيف بينما يداها ترتجفان وحسرة الدموع التي تبكيها في جوفها تصنع لها كتلةً في بلعومها، أو كأن سكيناً قد غارت في صدرها وما من قدرة على سحبها. كانت تعمل بصمت بينما تتخيل أن أختها قسمت ستدخل عليهم فجأة وهي تفتح عينيها الزيتونيتين مستغربة من سخط اختها وعنائها، فتنتشر معالم البراءة على محيّاها اللطيف. تتخيلها تحتضنها مواسية ثم تلقي عنها عباءتها وتشاركها عملها بهمة لتعينها على خدمة المعزين.
لبثت فرصت خلال أيام وليالي العزاء المتعاقبة أرقة لا تنام إلّا لماماً. تستلقي للنوم والى جانبها اختاها الصغيرتان، فترى في عين خيالها لحظات غرق قسمت. ترى الماء وقد ملأ أختها الكبرى فلم تعد قادرة على إلتقاط أنفاسها، تتخيلها وعيناها تغمضان الإغماضة الأخيرة. شعرها الكثيف الطويل وقد صار ملاذها الوحيد الذي أُذن لها أن تتمسك به في ظُلمات عديدة ومخيفة غير أنها تتجمد عن الحركة فلا تستعين به. تتخيل يداها ممدودتان تبحثان عن الطفلين وبطنها كبيرة لكنها لم تعد منفوخة كما رأتها آخر مرة، بل بدت لها خاوية بلا جنين، ضخمة ومسطحة كأنها للتو قد أسقطت طفلاً من جوفها، دون أن تتعمد. ثم تتخيل فرصت دشداشة أختها وقد بدأ الماء ينفخها حتى صارت مثل كرة كبيرة في أعلاها رأس وشعر يرقص متماوجاً، وفي أسفلها بالكاد تبرز قدما قسمت الصغيرتان. أين الأطفال؟ لا تراهم فرصت، لعلهم ضاعوا في هذه الغياهب. تتساءل قبل أن يعييها النوم بلحظات فتسقط تحت رحمة سلطانه، تُرى هل ندمت قسمت قبل أن يسرق الموت روحها بلحظات؟ هل رافست وتلفتت وهي تهوي في الماء عميقاً باحثة عن طفليها فتناثرت وتشابكت خصل شعرها كأنها تُجنّ معها؟ هل إعتصرت بطنها بكفيها لتؤمِّن على روح جنينها؟
هل صرخت صرخة كتمتها مياه دجلة الثقيلة؟
***
مع نهاية اليوم الثالث للعزاء وبعد أن خلا البيت من المعزيات، أعلنت فرصت بتمرد أنها ستترك ما تبقى من أعمال لليوم التالي دون ان تعبأ بنظرات عمتها قَيَم التي لم تكن مؤنبة كما توقعتها، ثم صعدت الى الطابق العلوي لتطل على والدتها التي اعتكفت في غرفة قصيّة رافضة الطعام والشراب، مستلقية على الأرض العارية في برد ديسمبر بعد أن ازاحت الفرش والأغطية. كانت عيناها مغمضتين واضعة كفها تحت خدها كأنها مطمئنة لكونها وأبنتها المتوفاة تتشاركان صلابة المرقد وبرودته. نادتها فرصت هامسة: ـ دا؟
فلم تجب لكن فرصت اطمئنت لهدوئها ثم أغلقت الباب بلطف. كانوا قد وجدوا الأم في واحدة من نوبات الجزع وقد شَقّت ثوبها ومرغت جسدها على الأرض، فانطلقت حينها الصغيرة “پِري” لتنادي الأب الذي كان في عزاء الرجال فجاء بصحبة عمهم “رضا” واخذ يهدئ من روع زوجته وقد إلتف حولها من في الدار بينما كل من الصغيرتين پِري في السادسة ومريم التي أكملت عامها الأول للتو تحاولان حشر نفسيهما بينهم، فكانت پِري تتابع أمها بنظرات متنبهة وقلقة بينما كانت نظرات مريم التي بدأت تمشي أولى خطواتها منذ أيام قليلة تبدو مملؤة بالفضول رغم قلة وعيها. حمل الرجلان بدرية الى الحمام الواقع في فناء الدار وغسل الملّا وجهها عنوة علّ الماء يعيد إليها شيئاً من رشدها، لكنهم ما إن غفلوا عنها حتى أخذت طابوقة وجدتها تسند الحنفية وضربت بها صدرها مرات عدة ثم سقطت شبه مغشيٍ عليها. حين أعادوها إلى مكانها أخلوا الغرفة من أي أدوات يمكنها أن تؤذي بها نفسها وحاولوا إطعامها بالقوة لكنها رفضت، وقد شعرت فرصت بثقل المسؤولية تجاه أمها وأخوتها الصغار بعد أن تغيب والدها الملّا غلام علي عن البيت وبات يقضي ليالي العزاء في الخان حيث يعمل، ورافقه في ذلك أخوه الأصغر رضا في محاولة غير مجدية لتخفيف المصيبة عنه.
في تلك الليلة الأخيرة للعزاء، نامت فرصت نوماً متقطعاً وحلمت بطفلي قسمت. رأت نفسها مع إبنة اختها ذات العامين في نفس الغرفة التي تنام فيها. كانت الصغيرة تضع أخيها الرضيع في حجرها وتهزه بقوة حتى كاد أن يقع قبل أن تتلقفه فرصت وتحتضنه الى صدرها بلهفة.