علي الخباز
تتكون مجموعة “براد الموتى” من سبع مسرحيات للكاتب علي العبادي، والتي تفرد بينهن النص المسرحي الأول الذي حمل عنوان “قيء”، بما أثار في نفسي جواذب متنوعة، استطاعت أن تقرأ الواقع قراءة مبدعة، وأن تقدم نصاً مسرحياً يرتكز على العديد من الأساليب التعبيرية التي أصبحت أدوات توصيلية للمضمون النصي، استخدم قلة الشخصيات.
شخصيتان فقط جعلهما الوسيط الذي يحمل المضامين الفكرية ليعبر عن رؤية، وهذا الاقتصار على (الرجل – المرأة) وتنوع أدوارها يبعدها عن النمطية، ويمنحها بعداً اجتماعياً ونفسياً الى عدة أدوار، الحارس وزوجته، المرأة الثكلى التي تبحث عن جثة ابنها بين الأنقاض والحارس، المؤجرة والمستأجرة، السياسي والمواعظة، الواعظ والمستمعة، قدم مضامين متنوعة، ومنها اختيار المكان، حيث كان عبارة عن خربة او دار عامرة، تعرضت إلى انهيار ليخلق منها التوازن والتفاعل الدرامي، لتنبثق منها جاذبية الفضاء المكان، ضمن رؤى (المستقبل، الحركة، المأوى، الحمامات، واللعب في الحيز المكاني)، فهو ينظر الى الأماكن؛ لكونها معرضة للخطر، ويصنع مكانات افتراضية يرسمها عبر جمل فاعلة (الأمهات المكبوتات لا يذهبن الى الحج، يعلقن صور أبنائهن على جدران الحائط، ويطفن حولها).
هذه الصورة المتخيلة تماثلت المكانية بتمكن تقني يعمل على توظيف القصدية، ويكشف عن أساليب عالية الدقة، اختارها لتمثل الواقع، ومنها الأسلوب الاستفهامي القادر على تركيز الوعي، وترسيخ المفاهيم المجسدة للأحداث، مثلاً نجده يتحدث عن اللافتات التي كانت تعلق على الجدران من أقمشة سوداء، يرى أن التطور الذي تطورناه انا امتلكنا لافتات ضوئية نعلن بها عن مآتمنا، فيستحضر سؤاله التهكمي:ـ “ماذا نريد بعد هذا الترف” وتوجيه ذهنية التلقي الى العديد من الاستفهامات مثل: اين أنا؟ أو: لماذا أنا هنا؟ لماذا هذا الصمت، وينفتح على العديد من المحاور، أسئلة استفهامية عن المكان وعن الوجود الكلي، عن الإنسان، الصمت الذي يعد عنده معاول للموت، يمنح الاستفهام بأنواعه رسائل مكنته عبر التأويل، الإجابة عند المتلقي.
هناك من يبحث عن شيء، وعن كل شيء، مثلاً (اين استحم؟) وعن التلاشي وعن الهذيان وهناك استفهامات فلسفية:ـ (ما هي الكمية التي نحتاجها من الماء لنتطهر؟)، والاستفهام الدرامي:ـ (لماذا نتطهر؟) لماذا هذا التهويل؟ لماذا هذا الخوف؟ وهذه الاستفهامات تؤدي إلى عوالم المسكوت عنه.
إجابات تشكل العصب الجوهري للواقع، ومن ثم تضمن القوة التأثيرية الجاذبة ومنها يفضي الى أسلوب آخر من الأساليب الإبداعية في كتابة النص الأدبي وهو الحوار اذ اعتمد الفنان علي العبادي عن فنية الحوار، وما يسمى بقوام النص المسرحي، ويكشف الحوار عن ميوله وعواطفه الشخصية، وبطبيعة الحال هو تعبير عن أوجه القناعة لدى الكاتب، ينقل أفكاره بجميع أوجه الرأي ليصل الى قوة تأثيرية (الحرس: لنختبئ حالما ينقطع المطر). (المرأة:ـ هذا المطر ربما سيطول كل الأماكن).
ويستدرج علي العبادي اللغة في لعبة الحوار الى عوالمه الدارجة ليعيش الواقع لحد الوجع:
(المرأة: الله يخليك خاله ما شفت ابني؟
الحارس: خالة مو سهلة نتعرف عليه؛ لأن أكثر الجثث تشوهت؛ بسبب الحريق.
المرأة: لا خالة آني أمه اعرفه.
الحارس: مستحيل تعرفينه.
المرأة:ـ يمه انا اعرفه بس اشتم ريحته.
الحارس: خاله ما كو ريحة بس الحرك.
المرأة لا يمه اني أعرفه.
يمد الكاتب حواراته بشحنات فنية يغترفها من الواقع المؤلم، لكنه تمرس بها بوعي، وتمكن من شحن اللغة الشعرية كأسلوب من الأساليب الحيوية التي اعتمد عليها في مسرحيته، فأدرك أن النص المسرحي هو خطاب أدبي، يعمق الصورة البصرية بما يمتلك من أبعاد لغوية تساند اللغة الملفوظة جماليات الحركة والإيماءة والإخراج، نحن نقرأ النص المسرحي كنص أدبي، لكننا ننظر إلى عمقها البصري أيضاً:
(المرأة: الكل يصرخ هات، وانا لا املك سوى فاتورة محبة مشحونة بالجوع والفقر).
حاول الكاتب أن يعتمد على شعرية واضحة المعنى، ليس فيها غموض يربك التلقي إلى سياقات مختلفة، فيبقى يعمل في شعرية مسرح وليس شعرية القصيدة:
(المرأة: وابقى ابصبص بعيني على جثة الشارع.
المرأة: الأمهات شهيتي مفتوحة للبكاء، على مدى أعمارهن، وأحياناً يشيخ البكاء قبلهن) الشعرية وسيلة جذب للمتلقي سواء كان قارئاً أو مشاهدا.
الأب: (يصبح هيكلاً من صراخ وضياع، وشبحاً لإنسان يطوف في مدن الذاكرة) وبعض الشعرية التي استخدمها الشاعر المسرحي علي العبادي تأخذ شكل الاحتجاج الاعتراضي على الواقع من خلال العرض المسرحي.
(أولئك الذين لو أمطرت الدنيا شرفا سيحملون المظلات).
استطاع علي العبادي أن يقدم وجدان مسرحية بلغة غاضبة غضب شاعر وشعرية ترفع من شأنه المسرحي بعين روح درامية مقتدرة.
شاهد أيضاً
٤٥ ألف كتاب مجاني بأكبر مهرجان للقراءة في العراق
انطلاق الموسم ١١ لمهرجان “أنا عراقي أنا أقرأ” بحضور أكثر من ٣ آلاف شخص شهدت …