قراءة فـي مجموعة “أصابع الأوجاع العراقية”

محمد خضير سلطان
اتخذت مروية “الأصابع” لدى حسب الله يحيى دلالات متعددة على أكثر من اتجاه اشاري واستعاري وايحائي واستعمالي فهي تشير للابن الذي كاد أن يقتل بعد إن انتزعه العصف من حضن أمه ، كما تثرى ايحاء من خلال التساؤلات التي تطرح كيانا لم يكن عابثا او طارئا إلا بالحدود التي تجعل القسوة والفجيعة هائلة والموت والقبح مطبقا .. وتشبع مجازا واستعارة في تلاحق الفواجع وتراكم الصدأ فيما يجري تحول المروية في طيف دلالاتها الى رماد او ذرات تراب ذهبية وسحرية،مستغرقة في حلم منبت واستنطاق في سحنة الموت الذي لم يمت.
تبدو الابعاد الإشارية والاستعارية والإيحائية والاستعمالية كمرويات لا تتجزأ عن سياقها السردي” متنا حكائيا ومبنى قصصيا” ولكن من الممكن فصلها بغية التحليل في السياق التقني”إستخدام واستثمار المروية” لجميع القصص إذ تقف في الخط الموازي لها بدءا من عنوان المجموعة وصورة الغلاف مرورا بعناوين القصص حتى الخاتمة ا فتشكل نصا مجاورا في الاطار السردي فضلا عن الدلالة المركزية العميقة التي تنتقل من معنى الى آخر تبعا لكل قصة.
ان الطريقة المقطعية القصصية كإحدى التقنيات الكتابية الشائعة التي درج عليها جيل الستينيات ، ومنهم حسب الله ،منحت نصه حيزا ومناخا ملائما لإطلاق مرويته بكل ابعادها المتشكلة في لوحة سردية مقطعة ومرقمة تصاعديا لتصل الى نهايتها الفنية المناسبة حتى غدت كتلة تشكيلة متباينة الاحساس باللون بين العتمة والضوء داخل فراغ المقاطع .. أن حسب لا يحول التشكيل الى سرد كما حفلت تقنية نصوص ستينية وسبعينية كثيرة بل يرسم ويصّور داخل الكتلة السردية على خلفية تقنية المقاطع .
ولعله يلصق النص بصور المرويات بتعدد موادها وملمسها بين تشوهات الألوان او تقلبها في يد تغدو حزمة من قش يحترق ويتلاشى او دلالات تأخذ صبغتها من سمرة الارض ولا تنتهي بصور لكماشات مشوهة ، مقرفة،نتنة،صدئة ،أصابع سبايكر التي شقت جفاف الارض ولم تحسن الرياح دفن الجريمة.
قيل أن اكثر النصوص المبدعة الواضحة ،تحتفظ بغلالة شفيفة من الغموض .. ونصوص مجموعة الاوجاع العراقية لحسب الله يحيي،تضمنت مثل تلك الغلالة الشفيفة من الغموض المبدع من خلال التشكيل في فراغ وتقنية المقاطع القصصية.
ان صور مرويات الاوجاع ،جاءت على نحو تجريدي وسط البناء التشخيصي القصصي، صور، تلصق بعناية داخل البنية الواقعية للقص لتتمكن من انشاء تعبيرية مجردة ،تنمو في داخل النص ثم تعلو لتكون في موازاته فضلا عن ترابطها مع تقنيته البنائية.
يكتب حسب الله القصة التي تنتمي الى النخبة الستينية ذات الاعطاف المتعددة ولكنها في مجملها تعتمد الاسلوب الوظيفي الذي يتناول الواقع بقصد التأثير فيه اذا لم نقل تغييره وسرعان ما كسر هذا الاسلوب بعد اقل من عقد من الزمان حتى بات البطل الثوري متراجعا في القصة بل غدت الشخصية المحبطة احيانا مصدر تألق وتوهج نقديين فاتجهت بوصلة الرؤية نحو مناطق اشتغال جديدة،اسهمت بها عوامل عديدة منها أن الاحباط هذه المرة ،يجيء من الهدف وليس النص بمعنى ان الواقع الذي سعى القصاصون الى تغييره بواسطة تحالفهم مع السلطة “والمقصود بالتحالف مع السلطة هو الافكار الايديولوجية والسياسية التي يعتنقها كتاب القصة وتلقى قبولا لدى احزابا وتيارات وزمر متسلطة ، لقد كانت القصة والادب عموما جزءا من السلطة أي انها تمثيل لها ابعد من المجتمع ولكن اذا كانت السلطات الاربعينية والخمسينية والستينية يمينية فان الادب يمثل السلطة الثقافية اليسارية”،أقول.. ان الواقع الذي سعى القصاصون الى تغييره بواسطة “تحالفهم” مع السلطة، اصطدم بتمزقات وتخبطات السلطة نفسها.. لقد جاء الاحباط واليأس والفشل من الهدف، من الواقع ،وتسلل الى القاص ومن ثم الى القصة فماذا يفعل الراصد إذ يجد هدفه مخربا،كيف له وهو الذي اراد ان يحدد زاوية ما ولكن سرعان ما تتداعى الى خراب مستمر.
والقاص حسب الله يحيي لا يبتعد عن تلك المعادلة إلا بالقدر الذي جعله يتحرى الخراب دون ان يصاب نصه بالإحباط ،انه يكشف عن وعي الخراب بصورة روح عازمة على المضي في تحليل البذور الاساسية المتطلعة وسط الانقاض بمعنى ان حسب الله ظل امينا على هدفيته بالرغم من تراكم اوجاع الذات حتى مجموعته الأوجاعية الأخيرة.

شاهد أيضاً

ناسا تخصص 3 مليون دولار لمن يحل معضلة “القمامة على القمر”

تُقدم وكالة ناسا الأميركية جوائز نقدية بقيمة 3 ملايين دولار لمن يُساعد في حل مُشكلة …

error: Content is protected !!