وعبوديته وقهره لها، سعياً إلى إرضاء المؤسسة الغربية النُخبويّة وما اسمّيه “الاستغراب”.
لكن الكاتب الفلسطيني محمود شقير، من مواليد جبل المكبر- ضواحي القدس عام 1941، له عشرات الاصدارات – القصة ، الرواية للكبار والفتيان ، مسلسلات تلفزيونية وأربع مسرحيات، تناول في روايته مديح لنساء العائلة (الطبعة الثالثة الصادرة عن دار نوفل البيروتية ، 201 صفحة) الهمّ النسوي وتطرق لمعاناة المرأة الفلسطينية ومحاولة التمرّد على القيود والتقاليد وسلطة الرجل في مجتمع ذكوريّ لتغيير واقع المرأة وتناول همومها ومشكلاتها محاولًا نقل صورة حقيقية لظلمها واضطهادها.
يصوّر شقير في روايته التغييرات في المجتمع الفلسطيني من ثلاثينيات القرن الفائت مرورًا بنكبة 1948 ونكسة 1967 والاجتياح الاسرائيلي للبنان صيف 1982 والمقاومة الفلسطينية المسلحة عبر شخصية بطله منّان مركّزًا على المرأة ودورها فجعله محور روايته.
يلجأ الكاتب إلى راويه محمد “الأصغر” الذي يعمل موظفًا – مدوّنًا في المحكمة الشرعية في القدس- فيتزوج من سناء المطلّقة، حمّله والده منّان عبء العائلة ليتابع مسارات أبنائها وبناتها ويحمي نساءها من أي سوء، عوّل عليه في جمع شتات العائلة بعد أن خاب أمله من بقية أولاده : “أنا محمد بن منان العبد اللات الملقب بالأصغر، للتمييز بيني وبين أخوين آخرين أطلق أبي عليهما الاسم نفسه، تقديراً لوالده الشيخ محمد الذي كان له شأن وأي شأن في البريّة، أحدهما لقبه “الكبير”، والثاني لقبه “الصغير”. وقد سار كل منهما في طريق مناقض للطريق الذي سار عليه الآخر. وكان لأبي موقف متذمر منهما. أعلن مرات عدة أمام أبناء العائلة أنه يضع ثقته فيّ، ويعلق آمالاً علي، بأن أجمع شتات العائلة”، فالتغييرات كانت أكبر من منان، فابنه الأكبر تزوج بامرأة مسيحية، وابنه الثاني فليحان – راعي تحول إلى تاجر ممنوعات ومُهرّب اغتنى من تجارة الحشيش، فشل في الوصول الى البرلمان ، يرافقه كرسي متحرك بعد أن أصيب برصاصة خطيب زوجته السابق الذي شعر بأنه يأخذ بثأره فأصبح عاجزًا، وابنه الثالث تزوج من امرأة مطلقة تكبره بثلاث سنوات، وابن آخر استشهد في المعارك ضد الاحتلال، وآخر تعرض للاعتقال ثم النفي، بعد انضمامه إلى الحزب الشيوعي، وابن ثالث حُكم عليه بالسجن المؤبد بعد أن قُبض عليه لالتحاقه بالعمل الفدائي، وآخر أصبح متطرفًا إسلاميًا. جاءت رسالته :”ومن خلال ما يتراكم لديّ من قصص ومن تفاصيل ووقائع، عن حالات طلاق، سأكتب قصة طويلة مسلسلة أزلزل بها أركان الربح من الانترنت مجتمعنا الأبوي الذي يظلم النساء، ويهينهن ويتنكر لحقوقهن ولكرامتهن. كنت أربط بين ظلم النساء وضياع البلاد، وأقول لبعض الأصدقاء: لن نتمكن من تحرير البلاد ما دمنا نظلم النساء”(ص 90) لكنّه فشل بمهمته لأن شجرة العائلة جاءت عجرة فجّة ، فكيف له أن يكتبها بدون ذِكر النساء رغم حضورهن الزخم حيث أن الأب منان متزوج بضع نساء، وله عدد من البنات، وزوجات الأبناء؟
يتناول شقير دور المرأة الفلسطينيّة المهمّش، وضعها الاجتماعي والاقتصادي ، ابنة القرية والمدينة وما بينهما، بؤسها وشقائها. يتناول “نزوة ومِحنَة” تعدّد الزوجات، عدم الإنجاب، زواج القاصرات، هّجْرِ النساء من أجل كسب العيش في الكويت أو البرازيل وغيرها، كما تطرق إلى ازدواجية مواقف المرأة تجاه قضايا المرأة فهي عدوّها الأول واللدود، وعلى جدول أعمال ” مجلس نساء العائلة” المعتاد، حيث تجتمع نساء العشيرة … ثرثرة ونميمة، ودائمًا حول الغائبة عن القعدة، ورغم ذلك نجد أن المرأة حملت عبء العائلة وحافظت على التمسك بالأرض وبالتالي الوطن… وما بينهما ولهذا استحقت المديح “البيوت تخجل عندما ترى أهلها قادمين وهي غير قادرة على استقبالهم”.(ص 182)
يتناول شقير قضية الشتات عبر تشتّت رجال العائلة في البلدان المختلفة طلبًا للقمة العيش ، ونرى أن “هموم منان زادت، ذهنه مشغول على أولاد العيلة اللي صاروا في كل بلد وفي كل مكان (ص 187)، فنجد عطوان قد “هاجر” إلى البرازيل برفقة مجموعة من أفراد عشيرته تاركا زوجته وحدها لصالح جيزيل البرازيلية “الداشرة الفالتة” ويرزق منها بولد سيمون بوليفار، (زوجته وابنه يتعاطفون مع فلسطين ويسألون عنها !!!) فيصبح زواجه “بالمراسلة” ونرى شقير يصرخ صرخة تلك النساء اللاتي بقين في الوطن مع الأولاد، نعم مع الأولاد وعبء إعالتهم وتربيتهم…وحضنهم.
أوجد شقير ببراعة بادية قريبة من القدس ليتناول العادات والتقاليد لدى النساء، فتتغيّر حسب الزمان والمكان، حسب المهنة وتفهّم الزوج، فنجمة زوجة العم عبد الودود تعمل في بيت موظف بنك وتتصرّف بشكل مغاير، ونوال ابنة نجمة تشتغل معلمة في القدس فلا تريد العودة للقرية “لماذا أزورها والناس ما زالوا يحملون عقلية البرية التي جاءوا منها، وليس لهم إلا القيل والقال” (ص 41-42)، ويتغيّر السروال واللباس… والموقف.
تناول كذلك قضيّة التمدّن والعولمة والتحولات الاجتماعية والمعيشية نتاج ذلك مما يؤدي إلى تغيير العادات والتقاليد والقيم للتأقلم مع الجديد، رغم تمنّع وضحا عبد الهادي، أصغر زوجات منّان، السادسة، حَكّاية تسرد الحكايات وتاريخ العشيرة في الليالي لكنها تخاف المذياع فالتلفاز …. فالكهرباء “ما هي إلا نور الملائكة التي أرسلها الله، لتنير البلاد رأفة بالعباد” (ص71) فتتغلّب الحداثة على القبيلة ويفقد منان السيطرة… ولاحقًا مكانته كآمر ناهٍ في جلّ أمور العشيرة.
لغة الرواية سهلة وانسيابية “نخدم لغتنا إذا جعلناها قابلة لاستيعاب الحياة ومستجداتها” (ص 167-168)، و”رسائل” عطوان من البرازيل أضفت على الرواية بعدًا آخر زادها جماليّة ورونقًا، واستعماله اللغة المحكية حين جاءت على لسان الأم وضحا أعطت الرواية نكهة شعبية صادقة أصيلة “ويا حسرة راسي قديش خفت على محمد لما كان عمره خمس سنين. زارتنا امرأة، عيونها زرق وأسنانها فرق. بعينيها ترمي الطير وهو طاير. شافته وقالت هالولد وجهه مثل البدر في سماه. قلت لها: اذكري الله، قولي ما شاء الله عليه واسم الله عليه. طلعت، يا قبرت عمرها، من عندي، وصار الولد يسعل ويقحّ ويشهق”، وكانت موفّقة بامتياز.
أخيرًا، أخذتني قراءة الرواية للوحة بريشة صديقي د. يوسف عراقي (طبيب تل الزعتر) الذي هُجّرَ من حيفانا في النكبة، وعنوانها “فلسطينيات في موسم الحصاد”، وحيّرتني صورة الغلاف والعلاقة بينها وبين عنوان الرواية ، وحبّذا لو كان رابط بينهما ليساعد القارئ العادي مثلي على فهم المقروء، بعيدًا عن النمطية الشعاراتيّة.
نعم، صدق فريدريك انجلز حين قال :”تحرّر المرأة معيار تحرّر المجتمع”.
بالمرأة تنهض الأمم ..
المحامي حسن عبادي – يلجأ كثير من الكتّاب العرب في السنوات الأخيرة إلى استنساخ الصورة الغربية النمطيّة عن المجتمع العربي الشرقي، من خلال ابراز تسلّط الرجل على المرأة.